يوسف القويري.. شمس الإبداع التي لن يحجبها غربال الظروف
خاص 218tv.net
أحلام المهدي
إنه القدر، أن يولد الكبير يوسف القويري في مصر، ليعود منها إلى وطنه الذي فرّ إليه بعد تجربة قاسية في السجن على خلفية توجه “يساري” تبنّاه وهو شاب لم يبلغ العشرين من عمره، وقد وجد لقلمه مكانا شاسعا في الصحافة الليبية التي ظل يتألق في كنفها ويسطع حتى جاء انقلاب سبتمبر من العام “1969” الذي توقع البعض أن تغازل مبادؤه المعلنة روحَ الثورة عند “القويري” وتؤجج الإبداع المنساب من فكره وقلمه.
لكن هذا التاريخ من عمر الوطن جفّف الحبر من دواة القويري يوسف، تماما كما جفف ينابيع أخرى كانت رقراقة بطريقة أو بأخرى في ليبيا، لتمر السنوات التي تحولت إلى عقود قضاها القويري في صمت بطعم “عدم الرضى” عن واقع فرضته الدبابات، وهذا ما استشفه أصدقاء الكاتب والمحيطين به دون أن يصرح به، لكن الكاتب عاد من باب الكتابة المسرحية لتولد “قادمون”، وتتوالى بعدها الزوايا والأعمدة في عدة مطبوعات ليبية، وتمر الأيام والسنوات ولتكون ثورة فبراير في 2011 منعطفا هاما للصحافة الليبية أخمد جذوتها بدلا من أن يذكيها، لنفاجأ اليوم بأن هذه القامة الليبية السامقة تواجه المرض بصمت لكنه صمتٌ بطعم الشجاعة هذه المرة.
في العالم الذي يقدر الفن والأدب ويعطي الحياة أجمل ما يملك أبناؤه وبناته، يعيش الفنان والأديب مقدّرا ومبجلا من الجميع، ليلمح هذا في عيون الناس التي تشع وهم يلتقونه في الشارع ويلمسه في أيديهم المتلهفة على مصافحته وتخليد صورة له معهم تبعث على التباهي والفخر أمام الأصدقاء والأحفاد يوما، وتُعلّق على أبرز حائط في البيت أو في الغرفة.
وحتى إذا عاش بعض هؤلاء على الكفاف المادي، فإن الثراء المعنوي الذي يقدمه لهم مجتمعهم يغنيهم عن كل شيء ويحفزهم ليكونوا جديرين بكم الحب والتقدير الهائلَين من الجميع، وحتى بعد رحيلهم، لا تخلو عاصمة في العالم من نصب أو تمثال يخلد أحد فنانيها أو شعرائها، وتضج متاحف الشمع بتماثيلهم المختلفة وتشتعل المزادات إذا تعلقت بقلم هذا الشاعر أو غيتار ذاك الفنان، ولطالما استفزني الصمت الذي يلفّ رحيل كبارنا، في حين تُلف أجساد الفنانين والأدباء في العالم البعيد بأعلام الأوطان اعترافا بخسارة الوطن كله برحيلهم.
إن من قدم الكثير للذاكرة الأدبية الليبية في الصحافة والقصة القصيرة والمقالة الأدبية أيضا وغير ذلك، لا يجب أن يعاني المرض وحيدا كقاطع طريق، بل يجب أن يقدم له وطنه “الشفاء” ممزوجا بالشكر الجزيل، لأنه لم يمنح ليبيا إلا الحب المسكوب من قلم مبدع كبير، فقط لو تحولت “قطرات من الحبر” إلى قطرات من الوفاء، ولو صارت “الكلمات التي تقاتل” كلمات تجلب الشفاء، ولو خطفنا إكسير الحياة “من مفكرة رجل لم يولد” لعاش هذا الكاتب الجميل عمرا من التكريم الذي يستحقه.
إنه الكاتب الكبير والقامة الليبية السامقة يوسف القويري الذي نتمنى أن يلتفت له وجه الوطن في لمسة يضعها أحد المسؤولين “الأكثر من الهم على القلب”، وقطرة من بحر ما يستوطن جيوب هؤلاء وحساباتهم المصرفية تكفي لجلب الشفاء للكبير القويري، ومن عاش عمره في بيت متواضع في طرابلس يصارع فيه ألم المفاصل والروماتيزم وحيدا، يستحق أن يعيش بسلام وصحة وقد بلغ من العمر ما يجعله أهلا ليعيش محمولا على كفّ الراحة والرفاهية التي يدين بها لوطنه كمواطن ليبي قبل أن يكون كاتبا كبيرا أعطى بسخاء للوطن الذي جعلته الظروف “جاحدا”.