يمضي الجمل ويترك خلفه بعراً
سالم العوكلي
كنت بصدد كتابة مقالتي عن ما يحدث في مراكز الهجرة غير الشرعية بطرابلس الواقعة تحت سلطة المجلس الرئاسي وحكومته، من جرائم ضد الإنسانية بل ضد حتى القوانين الدولية المتعلقة بالرفق بالحيوان، حين ألقيت نظرة على الشاشة بجانبي، وفي شريط الأخبار بقناة الآر تي الروسية وظهر هذا الخبر (حكومة الوفاق: اتفقنا مع قيادة القوات الأمريكية في أفريقيا على مواصلة محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في ليبيا) . فلم أتمالك نفسي من الضحك. وغيرت وجهة مقالتي بشكل مؤقت. ذكرني هذا التصريح المضحك بتصريحات أردوغان وساسته لتبرير احتلالهم أجزاء من شمال سوريا ودفاعهم عن إدلب بكونهم يحاربون الإرهاب، بينما، في الواقع، جميع الإرهابيين في سوريا تجمعوا في إدلب تحت حماية القوة التركية، مثلما تجمع كل إرهابيي ليبيا ومجالس شورى المجاهدين في طرابلس وضواحيها تحت حماية ميليشيات حكومة السراج المحمية بقوات تركية.
بعد قتل الكوماندوس لأبي بكر البغدادي في سوريا اتضح أن زوجته وبعض أقاربه مقيمين في استراحة فارهة في تركيا، ليعلن أردوغان مضطرا القبض عليهم، حيث قال في كلمته بالقصر الجمهوري خلال احتفال بمناسبة مرور سبعين عاما على تأسيس كلية الإلهيات في جامعة أنقرة، إن “الولايات المتحدة قالت إن البغدادي قتل نفسه في نفق. لقد بدؤوا حملة دعاية بشأن هذا.. لكنني أعلن هنا للمرة الأولى: لقد اعتقلنا زوجته ولم نحدث جلبة بشأن الأمر مثلهم. وكذلك، اعتقلنا شقيقته وصهره في سوريا” وبالطبع لا حاجة للجلبة عبر القبض عليهم وهم في استراحة تحت حماية شرطة تركية، ولم يكشف أردوغان عن التفاصيل مثلما فعلت أمريكا لأن التفاصيل محرجة ومخجلة. وسبق هذا بسنوات أن كشفت صور جوية نشرتها المخابرات الروسية لقوافل من النفط تنتقل بين تركيا ومناطق سيطرة داعش في العراق وسوريا، حيث كانت تركيا تمول هذا التنظيم عبر شراء النفط المسروق منهم وشراء القطع الأثرية والأعضاء البشرية، نقدا أو مقايضتها بالأسلحة، وكل هذا مثبت وموثق في تقارير استخباراتية دولية، حيث يدرك الجميع أن الحكومة التركية تدعم الجماعات الإرهابية في المنطقة، لكن يبدو أن إستراتيجية هذه الدول مرتاحة لهذه اللعبة التي ربما تخدم مصالحها حتى الآن، وعلى الأقل تراجعت إسرائيل كمهدد رئيسي للأمن القومي العربي إلى المرتبة الثالثة بعد إيران وتركيا، فتركيا مثل إيران تدعم الإرهاب وتنشئ أذرعا وفصائل مسلحة تابعة لها في كثير من دول المنطقة، شبيهة بأحزاب الله التابعة لإيران، وسكتت الدول الكبرى فترة طويلة عن هذا التمدد الإيراني الذي كان يخدم مصالحها، وحين انتهت المصالح، وجاء وقت تصفية الحسابات، عُزلت إيران وفُرضت عليها عقوبات مدمرة، وهذا ما سيحدث لتركيا تحت حكم المرشد الأعلى أردوغان، فحكمتهم التاريخية تقول: دع الأفعى تتمدد خارج وكرها كي تقطع رأسها. وطبقوها على عراق صدام حين شجعوه لأن يتمدد في الكويت ويهدد باجتياح المملكة السعودية.
مثلما تضحكني هذه الأخبار التي تفيد بأن حكومات ترعى الجماعات الإرهابية تحاول استدرار عطف العالم بكونها تحارب الإرهاب، يضحكني أيضا توصيف حكومة الميليشيات باسم (حكومة الوفاق) وهي أكثر حكومة في تاريخ ليبيا أبعد ما تكون على الوفاق، أحدثت شروخا في المجتمع الليبي، منذ حكم الدولة القرمانلية التي كانت ترسل حملاتها العسكرية إلى الشرق الليبي وتسببت في تغيير ديموغرافي نزحت بسببه قبائل ليبية كاملة تعد الآن بالملايين إلى الصحراء الغربية في مصر.
بداية الألفية الثالثة أصدر الكاتب د. محمد المفتي كتابا عن بشير السعداوي حين كان ذكر اسمه محرما في ذلك الوقت، وسُلط عليه بعض المؤرخين الذين يتصيدون الأخطاء في هذا الكتاب، ولكن أهم ما فعله المفتي أنه حرك الراكد فيما يتعلق بهذه الشخصية وبالتاريخ السياسي الحديث لليبيا، ومن هاجموا المفتي أو انتقدوه ما كان يخطر ببالهم أن يكتبوا جملة عن السعداوي في ظل حكم يعتبر التاريخ السياسي الليبي بدأ معه، ومن ضمن ما صدر جراء كتاب المفتي كتاب “ذكريات وخواطر” للسيد مصطفي فوزي السراج (والد فايز السراج) الذي أتيحت له فرصة بفضل كتاب المفتي أن يرى الضوء، ضمن منشورات مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية فى 2005 . وقرأت هذا الكتاب المهم الذي سد فراغات كثيرة في جزء من تاريخ ليبيا السياسي، واستشفيت تلك الروح الوطنية المتوقدة للسيد مصطفى والموضوعية التي كتب بها خواطره، ومراجعته لبعض الأفكار المتحمسة حين كان ضد موقف بشير السعداوي في مبايعته للأمير إدريس حفاظا على وحدة البلاد، بل واعتبر حتى إقصاء حزبه بشكل أو آخر من أول انتخابات تشريعية كان خطوة حكيمة لأن حزبه كانت له مطالب لو تحققت لما قامت الدولة الليبية، من ضمنها الضغط على البرلمان لإلغاء القواعد الأجنبية التي تستأجر أراض ليبية من أجل توفير مورد لمجتمع لا مورد له إطلاقا في تلك الفترة، ومع الزمن والنضج أدرك السيد مصطفى أهمية تلك الخطوة لانتشال المجتمع من الجوع والأوبئة المتفشية، مع العلم أن عقد هذه القواعد كان لمدة 20 سنة وسينتهي العام 1971 وفي الموعد نفسه الذي اعتبره القذافي تاريخ إجلاء القواعد الأجنبية الذي يحتفل به سنويا لأنه يستمد شرعيته من مثل هذه الوقائع المحرفة.
ما يعنيني أن مصطفى السراج؛ حتى بأفكاره التي تراجع عنها بعد عقود في كتاب مذكراته، كان منطلقه وطنيا، وكان ضد وجود قواعد أجنبية في ليبيا حتى وإن كانت لقوى الحلفاء الذين حرروا ليبيا من الاستعمار الإيطالي الذي ألغى الهوية الليبية واعتبر الليبيين مواطنين إيطاليين من أصل عربي. رحل مصطفى السراج رحمه الله العام 2012، وبعد 4 سنوات تصدر ابنه المشهد حين أصبح فجأة رئيسا للمجلس الرئاسي وفق اتفاق الصخيرات الذي أداره، من فنادق في المغرب، سفراء دول غربية، ولم يكن أسم فايز السراج مطروحا على الإطلاق في المفاوضات بين الأطراف الليبية، ولم يكن معروفا حتى طيلة تواجده في مجلس النواب في طبرق. وحين عاد السراج بترخيصه المنقوص من طبرق إلى طرابلس نشرت وقتها مقالة بعنوان (رسالة إلى السراج) متفائلا فيها بأن يحقق وفاقا وطنيا ومنطلقا من قراءة كتاب مذكرات والده وحسه الوطني، ومؤكدا أن تكون أولويته بعد أن ينال الشرعية كاملة المصالحة الوطنية، كما حذرته من حكم التاريخ فيما بعد على ما سيفعله، وكتبت في آخر الرسالة التي نشرت بموقع 218، شهر فبراير 2016، متوجها إلى شخص فايز السراج، ما يلي: “وأخيرا أشير إلى أن الوعي بالمهمة التاريخية التي تتصدون لها ومن معكم أساسي لأن ما ستفعلونه سيدخلكم التاريخ في كل الأحول، سواء من باب المجد أو من باب الفشل الذي دخلت معه الحكومات والسلطات التشريعية السابقة، وهذا الوعي بالتاريخ هو ما ألهم رجالا ونساء عبر التجارب الإنسانية في أن يحرصوا على النجاح وأن يخرجوا بلدانهم من الأنفاق المظلمة . الجغرافيا قد ترحم لكن التاريخ لا يرحم، وصناع التاريخ المشرف لأوطانهم ولهم شخصيا تميزوا بالنزاهة والحكمة والقوة.”.
لكن ما حدث، فيما بعد، غابت الحكمة والنزاهة عن السراج، ما جعلني اسميه ممحاة والده، والمفارقة أن يوقع الابن اتفاقيات لقواعد تركية وإيطالية في ليبيا بينما كان صراع الوالد مع الأمير السنوسي منطلقه ضد القواعد الأجنبية، والمفارقة أن هذه الاتفاقيات تجرى مع دول استعمرت ليبيا فيما سبق وتسببت في مجازر إبادة فيها (إيطاليا اعتذرت وتركيا لم تعتذر مثلما لم تعتذر بخصوص مجزرة الأرمن).
للأسف اختار السراج باب الفشل والجانب المظلم من التاريخ. وللأسف حين قررت البحث عن معلومات عن كتاب السيد مصطفى السراج “ذكريات وخواطر” لم أجد في الإنترنت شيئا عن هذا الكتاب المهم سوى وروده في سياقات قدح عنصرية تستغل اعترافه بأصوله التركية. وما زلت أكرر أن معظم الليبيين جاؤوا من أصول مختلفة، جمعهم مصير تاريخي ومن ثم سياسي في هذه الأرض، وأن العمالة والخيانة ارتكبها المتواطئون عبر تاريخنا ومن كل الأصول. كان مصطفى السراج وطنيا حريصا على التوافق الليبي، ومستعدا لمراجعة أخطائه، بعكس ابنه، وهذا يحدث في أحسن العائلات ، ويذكرني بالمثل الليبي الشائع “ينوض الجمل ويسيب البعر” .الذي ترجمته للفصحى في العنوان كي يكون مفهوما أكثر.