وعد سلامة
هدى السراري
لم يكن الدكتور غسان سلامة – عندما أجرينا معه اللقاء – مهتما بإظهار نفسه كمبعوث أممي جيد. فهو ليس بحاجة لتشخيص إلا ممن كلفه بهذه المهمة على أغلب تقدير. مهمة لم يخترها بل اختير لها، ومع ذلك فقد وجدته ما زال متحمسًا رغم يقينه بأن الطريق طويل.
بقي الرجلُ هادئًا ومتفهمًا حتى عندما تأخر التصوير لأسباب فنية تتعلق بالصوت .. تحدثنا في مجال عملنا، راقبته وهو جالس قبالتي، صبورًا لم يظهر على ملامحه أي انزعاجِ، بل بدا ودودًا مرحبًا ومازحًا لأكثر من مرة ..
في تلك اللحظات مرت أمام عيني صورةُ أحد النواب الذي صرخ ذات مرة على أحد معدي القناة معترضا على أحد الضيوف الذي خرج قبله في مداخلة، قائلا أنا فلان الفلاني وصفتي كذا وكذا ولا يجب أن يخرج فلان قبلي وأنا أنتظر على الخط.
في 2011 وقبل مقتل القذافي بأسابيع قليلة شاهدت الدكتور سلامة على إحدى الفضائيات المعروفة يقول “إن ليبيا مقبلة على حرب أهلية، شعرت وقتها بغصة شديدة، ربما لأنني سمعت هذا التصريح من شخص لطالما أعجبت به كمثقف بارز، أثق في خبرته وأستنير بأفقه الشاسع، حتى أنّي تحت تأثير العاطفة العمياء كتبت تغريدة قاسية تهاجمه على تويتر” .
لم يكن حينها غسان سلامة يتمنى الحرب لبلادي بل كان يقول عبر تصريحه إن التاريخ يستند إلى حقائق علمية ثابتة بقصص يرويها الإنسان، عن أحداث قامت بسبب الإنسان ، ومن لم يقرأ التاريخ لا يمكنه تجنب أخطاء السابقين.
منذ بدء الأزمة الليبية وحتى يومنا هذا هناك الكثير من القفزات البطولية التي قامت على أساس العاطفة وليس على أساس الحقائق أو المنطق؛ لذلك ليس هناك أسهل من تحميل كامل المسؤولية لكل من جاء مبعوثًا إلى ليبيا والذهاب فيه إلى حد المبالغة في مرات عديدة.
أنا شخصيًا لا أجد بأسًا من طرح أسئلة حول الدور الأممي في ليبيا وعما إذا كانت هناك نية حقيقية لإيجاد حلول تلبي طموحاتنا في الحرية والاستقرار، خاصة بعد الفشل الذريع الذي اشترك فيه كل المبعوثين الذين جاءوا إلينا، رغم خبراتهم ومعرفتهم بتفاصيل الأزمة، وإن اختلف عنهم سلامة في هذه عندما أخبرني تحت الهواء أنه لم يكن يعتقد أن الحالة الليبية بهذا التعقيد.
وقد بدا ذلك واضحا خلال اللقاء عندما أشار إلى إشكالية الهوية وصارح الليبيين بالتحديات التي تواجههم وذكرههم بواجباتهم في الوقت الذي اكتفى غيره من المبعوثين بالضرب على نغمة الحقوق والتفاؤل بالمستقبل القريب.
لا أستبعد أيضًا أن يقطع الرجل شوطا أكبر في المصارحة وقد مهد لذلك عندما قال: “أشعر يوميًاً أن الليبيين يعلمون أنني قد أنجح وقد أفشل، ولكنني لن أكذب عليهم سأبقى صادقاً معهم حتى لحظة خروجي من ليبيا”.
هذا القارئ الجيد للتاريخ بإمكانه أن يستشرف النتيجة النهائية من بداية الطريق، فتناقض مواقف المجتمع الدولي، وصراع المصالح الإقليمية لهما انعكاسات سلبية على الأزمة في ليبيا ولكن تعنت الأطراف الليبية وافتقارها لإراداة موحدة لإنقاذ بلادها يبدو الأكثر إحراجًا له، ومن خلال تصريحاته التي أدلى بها في اللقاء كان جليًا أنه غير مهتم بالحصول على ثقتهم، الطرف الدولي أو الليبي على حد سواء، كما أنه غير راغب في التخلي عن قيمه أو المساومة على ما يؤمن به للوصول إلى هناك حتى لو كانت النتيجة وردية.
ولكن تجربتنا طوال الأزمة في ليبيا أكدت لنا أنه لا يوجد أمر مفروغ منه في السياسة، نحن لا نطلب من سلامة أن يكسر القواعد التي من الممكن أن تضر بنزاهته، ولكننا نتوقع منه أن يكون أكثر مرونة في المشاكل الأكثر إلحاحًا.
لا يفوت رجل السياسات العامة أن الوصول للتسويات السياسية يمر عبر سيل من المبادرات لا مناص أمام المتكالبين على السلطة إلا القبول بإحداها، كل ذلك يأتي قبل الحديث عن حكومة لا قوة لها ولا جيش يأتمر بأمرها ، ديمقراطية بدون أحزاب وانتخابات في ظل وجود أجسام باقية وتتمدد.
ليس سهلا القبول بالفشل حتى لو كان خارجًا عن الإرادة ولكن الفهم والإدراك هو ما يجعلنا أقوياء لمواجهة الواقع وقد يصل بنا إلى السلم الأهلي الذي وعدني سلامة بأن لا يوفر جهدا لتحقيقه .