وطن بين أنياب الجرافات
سالم العوكلي
في وقت ما، كان من المتعة التجول في ربوع الجبل الأخضر، غير أن المرور بالطرقات القديمة في هذا الوقت أصبح مزعجا لحد الألم، فالملامح تتغير والتصحر بفعل البشر يزحف على أجمل الأماكن فيه، ورغم سيل الصور الجميلة التي تنشر في مواقع التواصل ويهلل لها الكثير من المتابعين والمعلقين، إلا أن ما يحدث بقرب هذه الصور من تجريف يهدد الجمال والحياة، وربما هذا النهم في التصوير يبطن في داخله إحساسا ما بقرب زوال هذا الجمال. وأدرك أن هذا التدمير والخراب يحدث في كل ربوع ليبيا.
شاهدت الفترة الأخيرة صورا جوية لمساحات من الجبل تظهر مدى انقشاع اللون الأخضر، واكتساح غاباته بالوحوش المعدنية التي لا تبقي ولا تذر، وحتى حين ألقي نظرة من نافذة بيتي تقابلني أطنان من التراب الخصب الذي تم انتزاعه وتكويمه، لتبدأ جذور الإسمنت في النمو بدله. آلاف من أطنان التربة تُزال كل يوم بجانب الطريق العام بينما سيارات الأمن والجيش والشرطة الزراعية تمر بجانبها وكأن الأمر لا يعنيها، أو كأنه يحدث في بلاد غير بلادنا. مساحات كانت مخصصة لإقامة حدائق حسب خرائط التخطيط العمراني، أزيلت منها التربة تماما وأخصبها يباع الآن لاستخدامها (رديما) في مشاريع اخرى تجتاح الغابة دون أن يملك أصحابها شهادات عقارية أو رخص بناء، فالكل مستولٍ على أراضٍ هي ملك للدولة انتقلت وفق تشريعات ملكيتها من إيطاليا إلى دولة ليبيا المستقلة ومازالت بحكم القانون ملك للدولة.
الشواطئ والغابات من المفترض أن تكون ملكا للدولة محمية بقوانين مازالت سارية والجهات المنفذة لها موجودة بمقراتها وسياراتها وكادرها البشري، غير أن أي فترات فوضى تمر يستغلها الانتهازيون النهمون في تدمير هذه المقدرات المملوكة للمجتمع والأجيال القادمة، لأن مسألة البيئة والدفاع عنها أصبحت أمرا كونيا ملحا لا يتعلق بالتنمية فقط ولكن بالوجود نفسه، من جانب آخر أعمدة الكهرباء تتهاوى جراء هذا الحفر الجشع والكوابل تسرق ونظم الاتصال من كوابل محورية وألياف بصرية تقطع بفعل هذا الحفر العشوائي، والمواقع الأثرية تستغل ويبنى فوقها وتسرق كنوزها ، وكلها تقع تحت بند المنشآت الحيوية الحري بالقوات المسلحة حمايتها في حالة غياب أو عجز الجهات المختصة.وفي غياب جهات الضبط ذات الاختصاص، سبق وأن وجهت نداءات للقوات المسلحة كي تتدخل وأن تعتبر أي جرافة تزيل الأشجار أو التربة موقعا إرهابيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. بدل أن تكون مشغولة بإقامة مهرجانات الأغاني ومعارض الكتب التي ليست من اختصاصها، بينما الأرض التي ورثناها وطنا ذاهبة إلى مصير مجهول.
المنشآت الحيوية، ليست فقط مقرات الحكومة أو الموانئ أو المطارات أو غيرها من الهياكل الخراسانية، بل كل ما يعتبر ضرورة لحياتنا وحياة والأجيال القادمة من أراض زراعية وغطاء نباتي، وكل ما سيكون أساسيا في أي خطة مستقبلية للتنمية المستدامة وتنويع مصادر الدخل، من شواطيء أو مواقع أثرية أو مسارات كهرباء ونظم اتصال وغيرها.
الطرق العامة تجتاح أطرافها المباني الإسمنتية ما سيقف عقبة كأداء أمام أي مشاريع لتوسيعها مستقبلا أو جعلها طرقا مزدوجة للتخفيف من احتمالات الحوادث المرورية القاتلة وحماية حيوات البشر، والآن إذا ما فُكر في توسيع هذه الطرق فلابد من إزالة آلاف المباني على جنباتها الضاربة قواعدها الإسمنتية في الأعماق. فضلا على المحاجر العشوائية التي تقام في قلب الغابات وعلى جنبات الطرق وقرب الأحياء السكنية دون ترخيص أو إجراءات قانونية.
الغابات تُسيج ويمنع فيها الرعي، وهذا الحجْر لها سيراكم وقود حرائقها من تراكم القش فيها الذي يؤجج النيران وينقلها من مكان إلى مكان، وهو أمر خطير، لأن الرعي فيها، خصوصا الماعز، هو الذي كان يحميها من سرعة انتشار الحرائق عبر القضاء على العشب الذي يتحول في الخريف إلى قش يابس قابل للاشتعال. الآن، بعض الدول التي تحاول حماية غاباتها من الحرائق تؤجَّر قطعان من الماشية من أجل تنظيف هذه الغابات من القش.
هذه حرب خفية على الوطن ومقدراته لا يلتفت إليها أحد، ستضع وطننا مستقبلا أمام كوارث بيئية لاحصر لها، ولا خطط لأي حكومة أو سلطة تشريعية انبثقت في هذه السنوات لإيقاف هذا الدمار الممنهج لوطن. وطن نتخاصم عليه كأنه أرض مستأجرة بينما يضيع منا بسبب هذه الوحوش المعدنية المنتشرة في ربوعه، التي تسبب في ساعات معدودة من الانجراف والتصحر ما يمكن أن يتسبب فيه، لسنوات طويلة، الجفاف وعوامل التعرية الطبيعية.
منذ سنوات وأطنان القمامة تتكدس على الطرقات، وعلى الشواطي، وفي الوديان المتصلة بخزانات المياه الجوفية في أكبر مظهر لتلويث البشر لمكان إقامتهم وحياتهم، لأن مكبات القمامة التي هي ملك للدولة أوقِفت من أناس يدعون أن الأرض التي بها المكبات ملكهم ويطلبون إيجارا.
كل هذا يحدث لهذا الوطن الذي يتغنى به الجميع ، ولا جهة مختصة وقفت في وجهه، ولا حتى بيانات أو مجرد تنبيهات متواترة من السلطات التشريعية أو التنفيذية على الأقل تحذر من يتسببون في هذا الخراب، فالكل مشغول بالغنيمة، والكل لا يرى في الوطن سوى قاعدة لصب الإسمنت.
.والنداء سيتكرر لكل هذه الجهات والأجهزة المختصة كي يوقفوا النزيف اليومي لكنوز هذا الوطن من أشجار وتربة ومياه ورمل شواطيء ومواقع أثرية، وهي كنوز لا يمكن تعويضها أو إعادة إعمارها أبدا.