وشاحُ سارة وفستان نجلاء
فرج عبدالسلام
عَودٌ على بدء…
في وقتٍ مبكرٍ من ثورة فبراير، وفي حين كان الليبيون مفعمون بالأمل بتغيّر الأحوال في البلاد إلى الأفضل بعد عقودٍ طويلة من استبداد أهوج أفسد العقول وخرّب الوطن. وفي مناسبة تاريخية جليلة تعلّقت بتسليم السلطة من المجلس الوطني الانتقالي إلى أوّل جسمٍ منتخب بطريقة ديموقراطية لم تلحق بها أدنى الشوائب، برز فجأة إلى العلن ذلك التيّار التراثي المتلفّح بتاريخٍ موغلٍ في القِدم، لم يشأ نسيانه أو تعريضه لمسيرة تقدّم الإنسانية، وإنما ظلّ يستحضرُه كلما حانت الفرصة لفرض سطوته ورؤيته للأمور رُغم أنف كل من عداه… وهكذا قامت الدنيا ولم تقعد بسبب (وشاح سارة) في واقعة تاريخية مضحكة مبكية في الوقت ذاته. ولمن لا يعرف الواقعة الأليمة، أو شاء أن يتناساها كما جرت عليه عادتنا في تناسي عظام الأمور دون البحث في معانيها ومعالجتها، وإنما المرور بها ببلاهة والنظر إليها بمفهوم (حبال سوّ وطاحن في بير) فقد تعلق الحدثُ بظهور فتاةٍ متألقة وطموحة وبدا أنها مبتهجة بالحدث التاريخي وبمشاركتها فيه وتقديم برنامج الاحتفال. حدثَ أنّ “سارة” لم تكن ترتدي حجابا على عقلها أو فوق رأسها، وعندها انتفض الذكور الليبيون الشهود على ما اعتبروه فضيحة كبرى، بعد أن ارتفع مستوى التستسترون لديهم، ورأوا في “البُنيّة” محض هدفٍ جنسي. ودون احترام وتقدير لأهمية ذلك الحدث التاريخي النادر، علا اللغط في القاعة وطالبوا بوقف هذه الجريمة الأخلاقية التي تجري أمامهم وتشوّشُ على أفكارهم الذكورية، فشَعرُ سارة المكشوف، لا يدعهم يفكرون بسويّة في شؤون الوطن، لأن غريزتهم قد تدفعهم إلى التفكير في مناطق أخرى من جسد الفتاة المسكينة. في النهاية، وحتى (لا يخرب الميعاد) حُلّت المسألة على الطريقة الليبية بخسارة الطرف الأضعف طبعا، واضطُرت سارة إلى مغادرة القاعة وهي تجر أذيال أنوثتها المُهانة.
حينها كتبتُ مقالا عن الواقعة تذكّرتُ فيه تعبيرًا كان جيلنا يستخدمه كثيرا هو (مربّع) ويُطلق لوصف الشخص المحدود الفهم وضيّق الأفق، وكان أن خطر لي آنذاك نحت تعبير (المثلث) في توصيف الشخص الذي يكون جلّ همّه في الحياة التفكير في النصف الأسفل من جسم الإنسان، وخاصة الأنثى، لأن فتاوي القروسطيّين، جعلت ذلك المثلث من جسم المرأة هو المبتدأ وهو الخاتمة للحياة، ومن خلاله يتم الحُكمُ على كل الأمور في هذه الدنيا، فأصحاب هذا الفكر لا يعرفون صناعة، أو زراعة، أو اختراعا، أو علما، أو تقدما، أو حضارة، أو ثقافة، أو عملا بنّاء يفيدون به أوطانهم والإنسانية، ويحققون به استخلاف الله الناس في الأرض غير ما يتعلق بذلك المثلث. وبالإضافة إلى تفكير فئة (المثلّثين) وفعلهم الشائن هذا فهم يناكفون غيرهم ممن تجاوزوا محنة المراهقة البشرية ويرغبون في ممارسة الحياة الإنسانية المشرقة والكريمة بالضوابط المتعارف عليها التي وضعتها المنظومة البشرية.
للأسف فما رأيناه جميعا في محنة سارة المسلاتي، أنّ أحدًا (وبالأخص من حضروا الواقعة ممّن يرفعون لواء التقدم والتطور والمساواة) لم يتعرض لهذا الحدث، ويعترض عليه لما يمثّل من سابقة وما له من دلالات سيّئة… لكن ما أشبه الليلة بالبارحة، فها نحن نرى الحملة المشابهة إياها تُسلّط على الوزيرة نجلاء المنقوش، حيث يتناسى مواطنو بلد المليون حافظ كل ما يجري حولهم من موبقات “يغطي منها الشيطان وجهه” من سرقة مئات المليارات من قوت الشعب، تناسوا أعمال القتل والحرابة التي تجري بين ظهرانيهم نهارا جهارا، تناسوا الغزالة الطرابلسية المغدورة “انتصار الحصائري وعمتها”، تناسوا المسكينة المنتهكة إنسانيتها صاحبة نداء “عندكم ولايا…” الذي يُدمي القلوب، تناسوا نائبتهم المغيّبة “سهام سرقيوة” التي هجم على بيتها جيش مدجج من خمسين ذكرا أو يزيد، وكل جريرتها أنها طالبت بالحوار بين الليبيين، تناسوا “حنان البرعصي” التي قتلت أمام الأشهاد في وضح النهار لأنها تهدد بفضح الفاسدين دون أن يخف أحدٌ لنجدتها أو حتى يرشدوا إلى الجناة. تناسينا سلوى بوقعيقيص التي اغتيلت بنذالة مع زوجها، وتناسوا أيقونة العفيفات المغدورة وعضوة المؤتمر “فريحة البركاوي” تناسوا الكارثة الأخلاقية التي ستلحق بنا أبد الدهر وهي المقابر الجماعية في ترهونة التي ضمّت نساءً وأطفالا ومن قاموا بذلك الفعل الشنيع ما زالوا يتجولون بيننا بكل حرية دون أن يجرؤ أصحاب العفة حتى بالإشارة إليهم. قائمة العار التي تلاحقنا جميعا تطول ولا مجال لحصرها… وإن كان أحدٌ منا قد تطرق إلى شجبِ مثل هذه الأفعال فباستحياء شديد وبخوف أكثر شدّة، لأن الأمر ليس ببساطة وسهولة انتقاد وشاحِ سارة، أو فستان نجلاء.
أما آن لهذا التناقض في فكرنا وأسلوب حياتنا أن ينتهي إلى غير رجعة. أن نركّز على بلادنا التي قاربت على الخراب المطلق، وقد تصعُب لملمتها من جديد، وأن نعيش حياة سويّة مثل بقية خلق الله، وأن نغضّ الطرف عن ثوب نجلاء وطول كعبِ حذائها، فالمصيبة الملمّة بنا أكبر ممّا نتصوّر.
وأخيرا، أما آن لهذا الليل أن ينجلي…