وداعاً صديقي فتحي الشويهدي
سالم العوكلي
من أكثر أيام السنة مقتاً إلى نفسي، يوم السابع من أبريل، وهو لم يعُد يوماً يعبر كما تعبر كل أيام العام، لكنه تحوّل إلى ذكرى مؤلمة تُحزن القلب وتعتم الروح، ومع الوقت تحوّل إلى خوف مازال يلاحقني لدرجة أتمنى أن لا أصحو في هذا اليوم من كل عام، أو على الأقل لا أتذكر أنه اليوم 7 أبريل حتى يمضي.
أول أمس 7 أبريل 2021 صحوت على خبر مفجع، برحيل صديق العمر وتوأم الروح الفنان فتحي الشويهدي فجأة حين كان في بنغازي يقوم بفحوصات طمأنه من خلالها الأطباء.
تعرفت على فتحي الشويهدي العام 1993 حين كنا نُجهز لإصدار العدد التجريبي من صحيفة الأفريقي التي قرر إصدارها القسم الثقافي بنادي الأفريقي بدرنة. اصطحبه إلى مقر الصحيفة الصديق الراحل إبراهيم بوحمرة مقدماً إياه كرسام، وكان من النوع الذي تحس بعد دقائق من الحديث معه أنك تعرفه منذ سنوات، شفاف مرح خفيف الظل لا تخذله الفكاهة، وحين عرّف بنفسه كرسام ساخر (كاريكاتور) لم استغرب ذلك.
لم يكمل فتحي دراسته، ولم يطلع على كتب تتعلق بهذا الفن أو بالثقافة عموما، لكنه كان فناناً بالفطرة، خياله جامح في تحويل أشد المواضيع تعقيدا للوحة ساخرة تقول الكثير دون ثرثرة في الخطوط، ودون أن تحتاج لوحته إلى كلام يدعمها. كانت خطوطه تشبه خطوط رسوم الأطفال متماهية مع الطفل الأبدي المشاكس الذي لم يتخل عنه أبدا.
طلبت منه في بداية لقائنا أن يُزودنا برسمة للملف الرياضي، واقترحت بعض الأفكار التقليدية، غير أنه فاجأنا بلوحته الأولى في الصحيفة التي لم تخطر على بال أحد منا، وحين كانت الرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً تتعقد في تلك الفترة في ليبيا، وتدخل عليها السياسة والنفوذ بقوة، وتتسبب في كثير من المشاكل والفتن والحبس وحتى القتل، كانت لوحته: رجل وامرأة لا يرتديان سوى ورق التوت، يقفان تحت شجرة، كل ثمارها كرات قدم، والمرأة تمد للرجل إحدى الكرات. ومن لحظتها عرفت أنه رسام مختلف عما تصورته لأي فنان تقليدي، واستمر معنا يزودنا بلوحاته الغريبة والجامحة التي يستلهمها من حوارنا عن مواد العدد فتقول الكثير بقدر بساطتها، إلى أن توقفت الصحيفة نهاية العام 1994، لكنه استمر في الرسم متفاعلا مع كل الأحداث المستفزة لحس السخرية لديه ولدى كل أحد يتابعها. وكان يلاحق بخياله يوميات المواطن الليبي المرتبك والملتبس والذي تنزعه مكابدات الحياة اليومية وفوضاها من المنطق أو الفهم أو المعنى، فيرسم رجلا يضبط ساعته على ساعة ميزان، أو رجلا ضخما يقف على الميزان محدقا بذهول في عداد الميزان الذي يشير إلى الصفر، أو يرسم زجاجة بيبسي مقفلة والفتاحة بداخلها، أو يرسم عصفورا يبني عشه في حذاء عسكري قديم، أو بندقية مزروعة في الطين ومن فوهتها تبزغ زهرة، كما اشتغل في سلسلة من الرسومات على شلال درنة بعد أن أصبح اسم الشلال يُطلق على الكثير مما يستجد من محلات أو مصانع أو غيرها في درنة، وكانت هذه الرسومات تتأثر بأحداث تحصل في ليبيا عموما أو درنة، فمرة يرسمه منهمرا بحروف سُلم موسيقي يقف أمامه مايسترو، ومرة منهمرا بالجماجم أو بالدموع أو بالدم حين تمر أحداث مؤلمة، وفيها كلها يضع أيقونته (الضفدعة) التي تعطي بظهرها مثل حنظلة ناجي العلي.
منذ ذلك اللقاء أصبحت علاقتي بفتحي متينة، ووجدت فيه ملاذي من كل حزن أو خوف أو قلق يعتريني، بروحه المرحة وحبه للحياة وحس الفكاهة الحاضر عنده دائما. وطيلة 27 سنة لم نفترق، ودائما كان موعدنا السهر والموسيقى والضحك دون حدود. كان عاشقاً أسطورياً للحياة، وبقدر خوفه من الموت كان ساخراً كبيراً منه، وكل فجائع الموت يحولها بحديثه إلى لوحات كاريكاتير، وهذه السخرية كانت نوعاً من مقاومته للخوف منه. يستمتع بالحديث عن الحب ويتوقف كثيراً عند المشاهد الجميلة، يحب المشي على الكورنيش وسماع قناة الشرق الأوسط الذي حافظ على علاقته معها لعقود طويلة لم يفارقه فيها جهاز الراديو، وكان مرجعاً في الموسيقى الشرقية (سيد درويش، أم كلثوم، عبدالوهاب، عبدالحليم، ليلى مراد، ….)، وكلما اختلف أصدقاء حول تاريخ أغنية أو مؤلف كلمات أو مُلحن لا حل سوى الاتصال بفتحي الشويهدي ليحسم الخلاف بمعلوماته التي ما طالها النسيان أبدا، وهو لا يستمع لهذه الموسيقى بأذنه فقط ولكن بكل حواسه، ويهيم معها كما يهيم الصوفي، ومثلما يهيم بالأحاديث عن الشعر أو الرسم أو الحب أو كل ما يمت للجمال بصلة.
كان فتحي درناوياً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، يعكس بعمق روح هذه المدينة التي يعشقها، وحين كان يحدثني عن ذكرياته فيها وعن شخصياتها الطريفة وعن جمالها الغابر كنت أتمنى لو كان روائياً لأنه يلتقط أهم تفاصيلها وروح الدراما المشبعة بها، ويتوغل في شخصياتها الشهيرة ويقرأها من الداخل كما يفعل أي روائي موهوب، ومن خلاله فهمت وعشقت روح هذه المدينة ولهجة أهلها وذاكرتها، وكثيرا ما وجدت فتحي حاضرا في قصائدي دون أن أخطط لذلك، لأنه طوال زمن صداقتنا كان يعرف كيف يؤثث ذاكرتي بكل ما هو جميل أو طريف أو منسي. ومن القصائد التي أهديتها له:
إلى عاشق درنة صديقي فتحي الشويهدي:
أشار صديقي
إلى مبنى الأمن
المغلق على أسراره
وقال بمرح غابر:
هنا كان ملعب للتنس
وحانة صغيرة
**
أشار إلى الوادي
الذي يقسم المدينة:
هنا كان جسر حجري قديم
ينقل عربات العرائس
من ضفة إلى ضفة
**
أشار إلى رجل في الشارع
يُحدّث نفسه:
هنا كان أب لطفلين
عاد من الحرب الخاسرة
بجرح في الروح
**
أشار إلى صدره:
هنا كان ثمة ما يتأهب
كشجر اللوز
للإزهار
وتوقف فجأة القلب المكتظ بالأزهار كحديقة درناوية، جاءني خبر رحيله فجر السابع من أبريل لتزداد كراهيتي لهذا اليوم وخوفي منه، وكان من الصعب عليّ أن أروّض هذه الفجيعة، وكثيراً ما راودني خاطر سريع عن كيف تكون حياتي دون فتحي إذا ما رحل قبلي، وكم سكنني هذا الخوف من فقده. فوداعاً صديقي وإلى لقاء لا بد منه يوماً ما.