“وثائق سرية”.. كيف قامت بريطانيا بأفعال القذافي “الوحشية”؟
ترجمة خاصة لقناة (218)
ذا جارديان- يان كوبين
وثائق سرية توضح كيف أن إم. آي 6 أرضت عملاء المخابرات الليبية القساة – بما في ذلك المساعدة على اختطاف أعداء القذافي.
خمسة أيام بعد 11/ 9، بداية مساء الأحد، تحركت مجموعة صغيرة من ضباط السي. آي. إ الكبار من مقر عملهم في لانغلي، فيرجينيا، إلى السفارة البريطانية في 3100 جادة مانشستر إن. دبليو في واشنطون دي. سي، لكي يبلغوا إم. آي 6 بخطة الوكالة في الرد على الهجمات.
كان كوفر بلاك، رئيس مركز “السي. أي. إ” لمحاربة الإرهاب، يترأس الوفد. مازال بلاك يرتدي نفس البدلة التي ارتداها منذ خمسة أيام، ويبدو مشتتا: فلقد كان يعمل ليلا ونهارا من أجل وضع خطة قوية ومقنعة لحماية بلاده من أية هجمات قادمة.
داخل السفارة عرض بلاك وزملاؤه خطتهم في ثلاث ساعات. كانت السي. آي. إ. تدير مشروع الاختطاف والتحقيق على نطاق ضيق منذ منتصف التسعينيات، مركزة على الجهاديين في البوسنة، كان يعرف بـ “برنامج التسليم”. تقضي الخطة بتوسيع مدى ونطاق البرنامج.
وحسب تيلور درمهلر، الذي كان وقتها رئيس عمليات السي. آي. إ في أوروبا، استمع ضباط إم. آي6 بهدوء بينما كان بلاك يتلو تفاصيل خطته، التي احتوت على التعرف على المشتبه في انتمائهم إلى القاعدة حول العالم وخطفهم والتحقيق معهم. في نهاية العرض لاحظ مارك ألَن، رئيس مكافحة الإرهاب في إم. آي6، على نحو جاف أن “ذلك يبدو تخثيرا للدم”. ولاحظ درمهلر أن ضباط إم. آي6 كانوا قلقين جدا. بعض زملاء بلاك من ضباط السي. آي. إ، الأقل خبرة في التعامل مع البريطانيين، أخطأوا من خلال أسلوبهم المتسم ببعض اللامبالاة في ملاحظة علامات الموافقة.
رغب ألن في معرفة ما الذي تنوي السي. آي. إ وإم. آي6 فعله بعد انتشار القاعدة عبر العالم. سأل: “وما الذي علينا فعله، بما أننا طرقنا الزئبق في أفغانستان؟”. تبادل ضباط السي. آي. إ النظر في ما بينهم. وحسب إحدى الروايات المتعلقة بالمقابلة قال بلاك: “من المحتمل أن نكون متهمين كلنا”.
كان إجمالي القتلى في هجمات 11/ 9 مازال في الارتفاع والرئيس جورج دبليو بوش يتطلع إلى اتخاذ موقف حازم. اليوم التالي لتقديم البنتاغون تقريره المختصر عقد بوش مؤتمرا صحفيا لمح فيه إلى ما هو قادم. قال: “أريد العدالة. ثمة ملصق قديم ينتشر في الغرب [الأمريكي] يقول: مطلوب – ميتا أو حيا”.
تطبيق هذا سيدرس في وقت مبكر من السنة التالية من قبل رؤساء أجهزة الاستخبارات الأمريكية والبريطانية والكندية والنيوزيلاندية والأسترالية. في لقاء بكوينزتاون، منطقة تزلج في نيوزيلندا، أصر مدير السي. آي. إ جورج تِنِت أنه يمكنهم فهم القاعدة وهزيمتها إذا ما عملوا بفاعلية مع أجهزة استخبارات في العالم الإسلامي، وإذا ما وافقوا على القيام بكل ما من شأنه رد الضربة للإرهابيين. ويقال أن تنت أعلن: “لقد أزيلت القيود، يا أصدقائي”.
أحد الاضطرارات الأكثر تأثيرا كان عقد روابط وثيقة مع أجهزة الاستخبارات العربية. لهذا الغرض بدأت السي. آي. إ وإم. آي6 التعاون مع جهاز الأمن الخارجي الليبي، وهو جهاز العقيد القذافي سيء السمعة العامل في ما وراء البحار.
كانت البنود المحددة معرفة المزيد عن الإسلاميين المتشددين، إلا أن هذا سيتغير في السنة التالية حينما رأى ألن ورؤساؤه السياسيون البريطانيون أنه ثمة فرصة للدخول مع القذافي في مفاوضات حول برنامجه المتعلق بتطوير أسلحة الدمار الشامل. فلقد كان القذافي يحاول تطوير قدرات نووية منذ بداية سبعينيات القرن العشرين، في البداية من خلال الحصول على أسلحة نووية من الهند، ثم عبر محاولة الحصول على خام اليورانيوم وتكنولوجيا التخصيب.
منذ آخر صيف 2003، عندما بدأت الحرب في العراق تسوء بالنسبة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، أخذ يتضح بشكل متزايد أن برنامج صدام لأسلحة الدمار الشامل – الذي كان المبرر العلني للغزو – لم يوجد. ولكن إذا ماتم إقناع القذافي بالتخلي عن خططه النووية فإن أولئك الذين ضغطوا من أجل الحرب على العراق يمكنهم الزعم أنه كان للغزو ما يسوغه.
بمجرد عقد السي. آي. إ وإم. آي6 علاقات مع ليبيا، سعت الوكالتان إلى تقييم دور الجواسيس الليبيين في اختطاف أعداء القذافي. فلقد اختطفت شخصيتان قياديتان في المعارضة الليبية ممن تركوا البلاد، إحداهما من هونغ كونغ والأخرى من تايلند، ونقلتا جوا إلى ليبيا مع زوجتيهما وأطفالهما. عذب كلا الرجلين . قدمت إم. آي6 لنظرائها الليبيين أسئلة للسجينين اللذين قاداهما، تحت الإكراه، إلى منشقين ليبيين آخرين في المنفى.
تم احتجاز معارضي نظام القذافي، الذين كانوا يقيمون بشكل قانوني في المملكة المتحدة منذ عدة سنوات، من قبل الشرطة البريطانية، وقامت الحكومة البريطانية بمحاولة إيقاف ترحيلهم إلى ليبيا. شعر طالبو اللجوء السياسي والبريطانيون من أصل ليبي في مانشيستر ولندن بالخطر وهم يرون عملاء القذافي الذين تمت دعوتهم إلى المملكة المتحدة وسمح لهم بالعمل في شوارع بريطانيا مع إم. آي5. وقامت المخابرات البريطانية بتزويد جهاز الأمن الخارجي الليبي بتفاصيل حول المكالمات الهاتفية للأشخاص المستهدفين، بحيث تم اعتقال أقاربهم وأصدقائهم في ليبيا وتهديدهم.
بعض تفاصيل الترتيبات السوداء الموضوعة من قبل أجهزة استخبارات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وليبيا التقطت من خلال المقابلات مع مسؤولين حكوميين وضحايا التسليم، ووثائق الحكومة البريطانية المفرج عنها بموجب قانون حرية المعلومات، ومواد ظهرت خلال تحقيقات سكوتلاند يارد وعدد من المحاكم المدنية. وأيا كان الأمر، فإن جزءا كبيرا مما تلا ذلك أُسس على المخزون السري غير العادي من وثائق وكالات الاستخبارات البريطانية والأمريكية والليبية التي اكتشفت خلال الاضطراب الناشيء عن الثورة الليبية في 2011 حيث كانت هذه الوثائق مبعثرة بالمكاتب الحكومية المهجورة والسجون وبيوت بعض المسؤولين. العديد من الوثائق الأكثر إثارة للاهتمام عُثر عليها من قبل مدنيين ليبيين ونشطاء حقوق الإنسان في سبتمبر من تلك السنة بمكاتب جهاز الأمن الخارجي. وثائق أخرى ظهرت إلى النور في مواقع حكومية مختلفة بعد القبض على القذافي وقتله الشهر التالي. تشكل هذه الوثائق مجتمعة بضعة آلاف من الصفحات.
توضح هذه الأوراق أن التقارب بين نظام القذافي والغرب – وحكومة توني بلير على وجه الخصوص تعمق – بعد 11/ 9 أكثر مما كان معروفا سابقا.
النتيجة التي رُكز عليها إعلاميا أكثر من سواها من نتائج استئناف الحوار مع ليبيا كانت إعلان الدكتاتور تخليه عن طموحه في امتلاك أسلحة الدمار الشامل النووية والكيميائية والبيولوجية. الضربة الأخرى كانت توقيع صفقات استكشاف الغاز والنفط بملايين الدولارات. من جانب آخر حملت هذه العلاقة ثمارا مرة: الاختطافات، الاعتقالات والضرب التي قامت بها وساعدت عليها السي. آي. إ وإم. آي6.
إلى هنا تقدم هذه الوثائق لمحات فريدة عن السياسة الواقعية التي لم يكن ممكنا تخيلها لولا وجودها تفصيليا من صفحة لأخرى. فهذه الوثائق تظهر إلى أي مدى كانت أجهزة الاستخبارات، في سعيها الحثيث إلى التقرب من القذافي والتأثير في السلوك المستقبلي للدكتاتور، مستعدة لارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
في 20 سبتمبر 2001، بعد أربعة أيام من التقرير الموجز للسي. آي. إ بخصوص التسريع في برنامج التسليم، كان رئيس الجواسيس في إم. آي6، مارك ألن يجلس مواجها ضابط استخبارات ليبي كبير. كانت أجهزة الاستخبارات العربية على معرفة جيدة بأن القذافي كان مرتعبا بعد 11/ 9. ذلك أن سجل ليبيا كدولة راعية للإرهاب كان ذا مصداقية: فحكومة القذافي كانت وراء تفجير رحلة البانام 103 سنة 1988 فوق لوكربي بأوسكتلندا مودية بحياة 270 فردا. وكانت مشتبها بتورطها في تفجير ناد ليلي ببرلين الغربية يتردد عليه رجال استخبارات أمريكيون سنة 1986، وإسقاط رحلة اليو. تي. أ 172 فوق تشاد في 1989 التي فقد فيها 170 شخصا حياتهم. أكثر من ذلك، لم يُخفِ القذافي تزويده الجيش الجمهوري الآيرلندي بالسلاح.
سارع الدكتاتور، نتيجة إدراكه لسمعته كداعم للإرهاب، بإدانة هجمات القاعدة، إلا أنه لم يكن متأكدا من أن هذا كاف لإنقاذه من غضب الولايات المتحدة. وفي مكالمة من السفير الأمريكي في القاهرة، ديفد وولش، كان القذافي يحاول “دعوة كل قائد عربي إلى الوقوف إلى جانبه” متوسلا إياهم عقد مؤتمر لإثناء الولايات المتحدة عن شن هجوم ضد بلاده.
على الجانب الآخر من الطاولة مقابلا لألن في هذا اللقاء كان يجلس واحد من الأشخاص القليلين الذين يمكنهم تهدئة الأخ القائد. فموسى كوسا كان لصيقا بالقذافي عبر أكثر من عشرين سنة، وأثناء المقابلة كان يشغل منصب رئيس جهاز الأمن الخارجي، الجهاز الذي كان يعتقد أنه نظم عدة أعمال إرهابية ليبية. وكان القذافي يثق في كوسا ويحترم مشورته.
يشترك ألن وكوسا في الشيء الكثير: كلاهما كان في بداية خمسينياته، حسن التعليم، وكانا دقيقين في سلوكهما، ويكرسان نفسيهما لعقيدتيهما: الإسلام والكاثوليكية الرومية. كل منهما كان يتكلم لغة الآخر بطلاقة، وفي مواجهة تهديد القاعدة كان كلاهما عمليا تماما. وتظهر الأوراق السرية أن كوسا عرض تزويد ألن بمعلومات انتزعت من رجال مسجونين بالسجون الليبية، ووافق الرجلان على أنه ينبغي على خبراء البلدين في مكافحة الإرهاب “الالتقاء للبحث في أمر العدو الذي نواجهه معا”.
في فاكس أرسل بعد ذلك بأسبوعين قال ألن أنه كان “مهتما جدا بعمليات اختراق مشتركة” لمنظمة الجماعة الإسلامية المقاتلة بليبيا. وعلى الرغم من أن بعض أعضاء هذه الجماعة قد التحقوا بالقاعدة في أفغانستان، فإن قيادتها كانت ترفض منذ سنوات عرض أسامة بن لادن، وظلت مركزة على الإطاحة بالقذافي. رغم هذا، كان ألن مؤمنا بشكل واضح أن أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية يمكنهم الإفادة بمعلومات حول خطر القاعدة. وعبر عن اهتمامه على وجه الخصوص بأحد القادة العسكريين للجماعة يبلغ من العمر 35 سنة محنك في الحرب السوفياتية- الأفغانية يدعى عبد الحكيم بلحاج.
في 13 نوفمبر 2001 وقع بوش أمرا عسكريا يخول الاستخدام الواسع للتسليم والتعذيب. بعدها بأيام التقى جهاز الأمن الخارجي الليبي وإم. آي6 مجددا. عند هذا الحد لاحظ الليبيون أن إم. آي6 كانت “عازمة على محاولة تجنيد مصادر”.
كانت بريطانيا تخوض حربا ضد الإرهاب. في منتصف نوفمبر منح قانون الأمن ومكافحة الإرهاب والجريمة وزير الداخلية سلطة احتجاز الأفراد دون محاكمة – ومنح أجهزة الاستخبارات مزيدا من السلطة في استهداف المشتبه بهم.
في أغسطس 2002، استعيدت العلاقات بين بريطانيا وليبيا على نحو متردد، من أجل هدف سيصفه بلير لاحقا بأنه “جائزة هائلة” بمقتضى التعاون الأمني مع الاستخبارات الليبية. وقد اعترف ابن القذافي سيف أمام مدرسة لندن للاقتصاد بمحاولته الثانية. خلال محادثة تليفونية أولية تبادل بلير والقذافي المزاح. وزير الخارجية الشاب مايك أوبراين زار القذافي في سرت، مسقط راس الدكتاتور، وقدم له رسالة من توني بلير. كانت هذه أول زيارة بريطانية على مستوى الوزراء منذ سنة 1984، حين قطعت المملكة المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا على أثر مقتل الشرطية ايفون فلتشر برصاص أطلق من داخل السفارة الليبية في لندن.
ليس مهما أنه كان يُنظر إلى القذافي عبر الشرق الأوسط على أنه مخبول خطر. قد يكون مجنونا، كما يبدو أن المسؤولين الكبار في الحكومة البريطانية يستنتجون، ولكن على الأقل هو مجنوننا.
كثير من العمل المبذول في بناء شراكة لم يقم به الوزراء، ولا حتى الدبلوماسيون، وإنما ضباط الاستخبارات، خصوصا ألن وكوسا. كان يلتقيان خلال 2002 ويبدو أنهما أصبحا صديقين صداقة متينة. أخذت هدايا التمر والبرتقال تظهر في مقر إم. آي6 على الضفة الجنوبية لنهر التايمز، بينما دعي كوسا في 20 سبتمبر 2003، بمناسبة الذكرى الأولى للقاء الأول بين الرجلين، إلى “مائدة غداء في غورنغ” الفدق الفاخر.
هذه أول زيارة من قبل كوسا للمملكة المتحدة خلال عقود. في يونيو 1980 وبصفته أمين المكتب الشعبي في لندن، مثلما كانت تدعى سفارة بلاده حينها، أجرى مقابلة غير عادية مع التايمز اعترف فيها بأنه كان قد أعطى موافقته الشخصية بقتل ليبيين كانا يقيمان في المملكة المتحدة. وكان اللورد كارنغتون، وزير الخارجية حينها، بالكاد وافق على أن تطأ قدم كوسا الأرض بما أنه كان قد طرد من البلاد.
وها هنا الآن، بعد ذلك بـ 23 سنة، يحتسي النبيذ ويتناول الطعام على مرمى حجر من قصر باكنغهام. “رحب رئيس الوفد البريطاني بضيفه في حرارة، معربا عن سعادته”، وفقا للمحضر الليبي. لم يبدُ أنه جرى أي نقاش يخص عمليات القتل التي وافق كوسا على تنفيذها في لندن قبل عقدين. كما أنه لم يجر أي ذكر للتفجيرات العشرة التي استهدفت معارضي القذافي في مانشستر ولندن في مارس 1984 والتي جرح فيها 29 شخصا.
بدلا من ذلك، كانت هناك محادثات حول “القضايا الثنائية والدولية، المشاركة الاستخباراتية وحول رغبة إم. آي6 في ضمان أمن سيف القذافي وأن يكون مرتاحا أثناء إقامته في لندن. ثم انتقل الحديث عندها إلى معارضي الدكتاتور السياسيين المقيمين في المملكة المتحدة. قال ضابط عالي الرتبة في إم. آي6، حسب ما ورد في أحد التقارير: “ما نحتاجه للتعامل مع هؤلاء الأشخاص المقيمين في المملكة المتحدة هو دليل واضح للقيام بتحركات سريعة ضدهم”.
في أكتوبر 2002، كتب بلير إلى القذافي، متشجعا بروح التعاون الجديدة، مشيرا إلى أن العقوبات التي تعيق صناعة النفط في بلاده وتضع عبئا ثقيلا على اقتصادها يمكن أن ترفع، في حالة إذا ما وافق على التخلي عن برنامجه لامتلاك أسلحة الدمار الشامل، الذي شكل منذ فترة طويلة قضية بالغة الأهمية للغرب.
في 25 نوفمبر 2002 مررت ليبيا إلى إم. آي6 قائمة بأسماء 79 معارضا ليبياً نشطين تصفهم بأنهم “زنادقة” يعيشون في المملكة المتحدة. معظمهم، إن لم يكونوا كلهم، يقال أنهم أعضاء الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية أو مناصرون لها.
الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، وهي جماعة سرية تشكلت سنة 1995 من ليبيين قاتلوا ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، كرست نفسها للإطاحة بالقذافي وإقامة حكومة إسلامية في طرابلس. وقد أعلنت عن وجودها من خلال سلسلة صدامات مع قوات القذافي شرق البلاد. لعدة سنوات كان لها قائدان: بلحاج آمرها العسكري، وسامي الساعدي قائدها الروحي.
على الرغم من أن قيادة الجماعة لم تقر أبدا هجمات القاعدة على الغرب وأصرت على أن اهتمامها منصب فقط على الإطاحة بالقذافي، فإن مئات من أعضائها انضموا إلى القاعدة في أفغانستان على أثر محاولة اغتيال فاشلة للقذافي سنة 1996، وبعد 11/ 9 وضعتها حكومة الولايات المتحدة على لائحة المنظمات الإرهابية. وحتى ذلك الحين لم يتم حظرها في المملكة المتحدة. بعض أعضائها فروا إلى بريطانيا وأيضا إلى الصين وإيران. كان الساعدي وزوجته كريمة وأطفالهما الأربعة من بين الذين استقروا في لندن لفترة وجيزة قبل الانتقال إلى طهران.
في المملكة المتحدة تسامحت الحكومة مع الجماعة. كان يمكنهم إعادة التجمع وجمع الأموال. منذ أواخر 2002، عندما بدأ التقارب بين لندن وطرابلس يدفأ، أصبح يتم إيقاف الليبيين المقيمين في بريطانيا واستجوابهم في المطارات، وتقوم الشرطة بمداهمة سكنى عائلاتهم في لندن ومانشستر. حينما كان الكاتب الليبي هشام مطر – الذي اختفى والده، الذي كان عضوا بارزا في جماعة منشقة مختلفة، من قبل نظام القذافي سنة 1990- يتغدى في لندن أصبح يختار مجلسه مواجها لباب المطعم. “لا أحد منا يشعر بالأمان”، مثلما كتب بعد ذلك.
مع بداية 2003، حين كانت قوات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تتحشد على حدود العراق، كان القذافي خائفا من أن يتم استهداف ليبيا. ووفقا لأحد الدبلوماسيين، فإنه هاتف رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني، متوسلا إياه أن “قل لهم أني سأفعل كل ما يرغبون”.
مع مارس ضَمِن بلير دعم مجلس النواب للحرب ضد العراق، وحدث الغزو بعد ذلك بيومين. بعدها بثلاثة أسابيع بدا أن بغداد ستسقط أمام الولايات المتحدة واعتُقد أن الحرب على وشك الانتهاء: في 1 مايو، على متن حاملة الطائرات الأمريكية يو. إس. إس إبرهام لنكولن، ألقى بوش خطابا أمام علم كبير الحجم معلنا: “المهمة أنجزت”.
تظهر الوثائق السرية أنه حينها كان ألن يلتقي بانتظام مع ضابط كبير من السي. آي. إ، ستيفن كابس، ليناقشا السبل الممكنة للتأكد من أن القذافي تخلى عن طموحه في تطوير أسلحة نووية وكميائية وبيولوجية. خلال حديثهما مع كوسا لم يتم التهديد بالعقوبات، فالحاجة إليها ضئيلة، طالما أن الرجال الثلاثة يدركون أن القذافي كان مذعورا من حدوث غزو أمريكي. في لقاءات بطرابلس ناقش ضباط من إم. آي6، ليس فقط برنامج أسلحة الدمار الشامل، وإنما سبل استهداف “الزنادقة” الليبيين عبر العالم. أخبر ضباط الاستخبارات البريطانية الليبيين بأنهم التقطوا مكالمات سامي الساعدي من بيته في طهران.
في أحد اللقاءات بين جهاز الأمن الخارجي الليبي وإم. آي6 وإم. آي5 قدم البريطانيون ورقة موجزة تفيد أن إم. آي5 جاهزة. “تحيات من جهاز الأمن البريطاني” تقول الورقة. “نحن… نتمنى أن نشارككم المعلومات التي لدينا والتي قد تهمكم”. واحتوت الورقة تفاصيل حول أمكنة وتحركات معارضي القذافي في لندن وبرايتون وبيشاور ولوس آنجلوس. قدمت إم. آي5 أيضا تفاصيل “عن المتطرفين الليبيين المقيمين في بريطانيا”. كانت الاستخبارات البريطانية قد شرعت في تعقب قيادة الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية. سأل جهاز الأمن الخارجي الليبي البريطانيين عما إذا كان يمكنهم المساعدة في القبض على بلحاج، الذي كان في الصين مع زوجته المغربية فاطيمة بوشار. وكان رد إم. آي6 أن هذا يتطلب جس نبض الصينيين أولا.
لم يكن ضباط الاستخبارات البريطانية يجهلون كيف سيُنظر إلى هذا النشاط في بلادهم. قبل انعقاد لقاء آخر وزع الصادق كريمة، نائب رئيس جهاز الأمن الخارجي، مذكرة داخلية حذر فيها من أن البريطانيين كانوا حريصين على أن اللقاء ينبغي أن يظل “خصوصيا” لأن “الوضع السياسي والقانوني الداخلي [في بريطانيا] معقد”.
في تلك الأثناء في العراق كان يبدو للولايات المتحدة وحلفائها أن المهمة كانت بعيدة جدا عن الإنجاز. ففي 7 أغسطس انفجرت سيارة ملغومة في بغداد قتل فيه 17 شخصا وجرح العشرات. بعدها باثني عشر يوما نسفت عبوة متفجرات بشاحنة إسمنت مقر هيئة الأمم المتحدة بفندق القناة ببغداد، قتل فيه ممثل هيئة الأمم المتحدة الخاص سيرجو فييرا دي مِلِّوا و21 آخرون. عصيان منظم كان قيد التكون.
الثقة في الذهاب إلى الحرب كانت تتبخر في لندن وواشنطن. رئيس مجموعة البحث العراقي، وهي هيئة متعددة الجنسيات أنشئت للبحث عن أسلحة الدمار الشامل لدى صدام، أعلنت أنه لا توجد سوى دلائل ضئيلة على أنه امتلك أي سلاح من هذا النوع.
إذا ما نجحت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في تجريد القذافي – وربط ذلك النجاح بالحرب على العراق – فإن الغزو لن يبدو على أنه حسابات خاطئة مدمرة. عندها سيحظى الحلفاء بالراحة، في الشرق الأوسط وشمال ليبيا.
بي. بي. سي الصين، وهي سفينة شحن مسجلة في ألمانيا، عبرت قناة السويس في 4 أوكتوبر 2003 وأبحرت غربا نحو ليبيا. اعترضت البحرية الإيطالية السفينة وقادتها إلى ميناء تارانتو، حيث اتضح من التفتيش أن خمس حاويات مكتوب عليها أنها “قطع غيار آلات مستعملة” كانت معبأة بمعدات طرد مركزي لبرنامج القذافي لتخصيب اليورانيوم.
المعدات جرى تعقبها من ماليزيا حيث صنعت لصالح عبد القدير خان، العالم الباكستاني الذي يُقَدَّر ليس فقط لأنه يُعَد أبا القنبلة الذرية لبلاده، ولكن أيضا لتقديم الخبرة والمعدات التي كانت بذور البرنامج النووي في كل من كوريا الشمالية وإيران.
ليبيا أيضا لجأت إلى دكان خان المجمع للانتشار النووي.
دعا ألن كوسا مجددا إلى المملكة المتحدة. هذه المرة دام اللقاء 90 دقيقة في 20 نوفمبر في بى تري بفندق خمس نجوم مغطى بنبات الوستيريا في كوتسوولدس على بعد عشر دقائق فقط بالسيارة من قاعدة راف في برايز نورتون. المحاضر الليبية حول اللقاء توضح أن ألن وكابس سلما رسائل شخصية إلى القذافي من بلير وبوش، قبل إدارة الموضوع المحدد: كانا يعلمان أن الليبيين كانوا يمضون قدما في برنامج التسلح النووي، في حين يتظاهرون بتفكيكه.
كانت إجابة كوسا التعهد بأن الحكومة الليبية ستتخلص من البرنامج وأقر بأنه في هذه المرحلة “لم يعد ثمة مجال للتهرب أو التملص أو المداورة”.
بعد ذلك بأحد عشر يوما طار فريق من المفتشين الأمريكان والبريطانيين بقيادة كابس وألن إلى مطار معيتيقة في طرابلس. وحسب تقارير إخبارية لاحقة في الولايات المتحدة تم اكتشاف دلائل على وجود برنامج تسلح كميائي أولي لم يجرب، ومشروع أسلحة نووية كان مفاجئا أنها في مرحلة متقدمة. بدأ العمل في تفكيك مصانع أسلحة الدكتاتور ونقل التصميمات ووحدات الطرد المركزي ومعدات أخرى من البلاد. ويقال أن حوالي 13 كيلوغراما من اليورانيوم مخصبة بنسبة 80% نقلت بمساعدة روسيا. واكتملت العملية خلال أربعة أشهر.
كانت تلك ضربة موفقة بالنسبة إلى واشنطن التي قررت الاستفادة إلى أقصى ما يمكن إعلاميا. أما في لندن في ترافلرز كلاب في بول مول، قابل ألن روبرت جوزف كبير موظفي مكافحة الانتشار النووي في مجلس الأمن القومي بالولايات المتحدة، لمناقشة صياغة البيان الذي سيدلي به القذافي معلنا فيه تخليه عن طموحه في امتلاك أسلحة الدمار الشامل.
تم الاتفاق على أن القذافي سيدلي بالبيان في التلفزيون الليبي في 19 ديسمبر. وسيقوم بلير وبوش بالإدلاء ببيانيهما. ومتقلبا كعادته، قرر القذافي في الدقيقة الأخيرة عدم القيام بذلك – كان يرغب في مشاهدة كرة القدم على التلفزيون، في ما يبدو – وقام وزير خارجيته بإلقاء البيان بدلا منه.
في مقابل ذلك لم يُشر بوش ولا بلير إلى العراق، لكنهما لمحا إلى الغزو. “لقد أظهرنا الحزم” قال بوش. “بالأقوال والأفعال، ولقد وضحنا الخيارات الباقية بخصوص الخصوم المحتملين”. وأضاف بلير أن “الأحداث الأخيرة والعزم السياسي” جعلت العالم، في نهاية المطاف، مكانا أكثر أمنا. مقالات رأي كتبت من قبل مؤيدي الحرب على العراق زاعمين أن تجريد القذافي من سلاحه يوضح أن الحرب كانت مبررة.
عشية عيد الميلاد بعث ألن رسالة إلى كوسا بواسطة رسول خاص في جهاز الأمن الخارجي الليبي الذي وصل للتو إلى لندن حاملا تمرا وبرتقالا. “إنه لامتياز حقيقي أن أعمل معك” كتب. “في هذا الوقت المكرس للسلام، أعبر لك عن إعجابي وخالص تهانيَّ”.
إلا أن الشك في طموح القذافي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل لم يكن، كما اتضح، نهاية تعاونهما.
ففي فبراير 2004 حاول عبد الحكيم بلحاج، قائد الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وزوجته فاطيمة بوشار، التي مضى على حملها أربعة أشهر ونصف، استقلال طائرة في رحلة تجارية من بكين إلى لندن حيث كان يأمل في طلب اللجوء السياسي. لكن بدلا من ذلك سفرت السلطات الصينية الزوجين إلى ماليزيا. وبمجرد وصولهما إلى كوالا لمبور اعتقلا.
بين الأوراق السرية التي اكتشفت في مكتب كوسا فاكس من إم. آي6 مؤرخ في 1 مارس2004، يخبر الليبيين بمكان الزوجين، ونسخ من رسائل كوسا إلى سفير ماليزيا في ليبيا يطلب فيها منه المساعدة. ثمة أيضا فاكس من السي. آي. إ مؤرخ في 6 مارس 2004، بخصوص “القبض على بلحاج وتسليمه”. “نحن نخطط لمراقبة الزوجين في بانكوك ووضعهما على طائرتنا في رحلة إلى بلدكم” يقول الفاكس.
المساء التالي وضعت السلطات الماليزية الزوجين على رحلة اقتصادية إلى لندن، عبر بانكوك. وفي بانكوك أخذا من الطائرة، غُمَّيا ثم أخذا إلى مركز احتجاز تابع للسي. آي. إ في مكان ما داخل مطار دون موينغ الدولي.
يقول بلحاج أنه ضرب وعلق وسلطت على أذنيه موسيقى ضاجة. بوشار أخبرتني أنها عندما سحبت بعيدا عن زوجها خشيت أنه سيقتل. “أخذوني إلى زنزانة ووضعوا سلسلة في رسغي الأيسر وشدوني إلى الجدار وأوثقوا كاحليَّ بالأرضية. كان باستطاعتي الجلوس، لكن لا يمكنني الحركة”. شُدت بوشار إلى الجدار لمدة خمسة أيام وكانت تقدم إليها المياه، ولكن دون طعام. “علموا أنني حامل. كان حملي واضحا”. أجبرت على الاستلقاء فوق نقالة وربطت عليها، رأسها على قدمها، مع شريط لاصق. وضعوا عليها غماء وغطاء للأذنين. لم يكن بإمكانها التحرك أو أن تسمع أو ترى. “كانت عيني اليسرى مقفلة حين وضعوا الشريط. لكن عيني اليمنى كانت مفتوحة. كان ذلك كربا”.
بعد خمسة أيام أخذ الزوجان إلى طرابلس على رحلة استمرت 17 ساعة. عند وصولهما أخذا منفصلين إلى سجن تاجوراء، شرق المدينة. يقول بلحاج أن كوسا حياه شخصيا. ثم ربط بسلسلة إلى الجدار، مثلما يقول، وضرب. وتقريبا مباشرة بدأت إم. آي5 وإم. آي6 في إرسال أسئلة يطلبون من الليبيين طرحها عليه. العديد من هذه الأسئلة يتعلق بحياة ليبيين آخرين منشقين حول العالم. واستمرت الأسئلة في القدوم. كل هذه الأسئلة موجودة في الأوراق السرية المكتشفة في طرابلس: أكثر من 1600 سؤال.
بعد تسعة أيام من وصول الزوجين إلى تاجوراء، أرسل ألن إلى صديقه كوسا ما قد يعد الفاكس الأكثر تميزا في السلسلة كلها. بدأ بالإعراب عن امتنانه لصديقه لترتيبه زيارة من توني بلير للقذافي – أو “القائد” مثلما عبر هو. سيسافر بلير، مضى ألن شارحا، بمعية صحفيين ويرغب في لقاء القائد في خيمته. “الواقع الجلي أن الصحفيين سيحبون ذلك”، كتب ألن.
ثم هنأ كوسا على “الوصول الآمن” لبلحاج. “هذا أقل ما يمكننا فعله لكم ولليبيا لإظهار العلاقة المتميزة التي بنيناها في السنوات الأخيرة”. وأضاف بـ “مرح” أن السي. آي. إ طلبت من إم. آي6 أن تُنقل طلبات الأسئلة الموجهة إلى بلحاج عن طريقهم. “ليست لديَّ النية في فعل مثل هذا الشيء. الاستخبارات… كانت بريطانية. أعلم أنني لا أدفع تكاليف الحمولة بالطائرة. لكنني أشعر أنه من حقي أن أتعامل معك مباشرة بهذا الشأن”.
زار بلير ليبيا أول مرة في 25 مارس 2004، بعد ستة أيام من إرسال ألن الفاكس الخاص بـ “الوصول الآمن”. بعد أن التقطت له صور وهو يصافح القذافي، أعلن أن ليبيا “أوجدت قضية مشتركة معنا من خلال مكافحة التطرف والإرهاب”. في نفس الوقت في لندن تم الإعلان عن أن شركة شل الهولندية- البريطانية العملاقة وقعت عقدا بمقدار 110 مليون استرليني مقابل حق استكشاف الغاز في المياه الإقليمية الليبية. بعدها بيومين كانت تجري عملية ترحيل ثانية تشترك فيها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وليبيا. فالقائد الروحي للجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية، سامي الساعدي، كان قد انتقل مع كريمة وأطفالهما الأربعة إلى الصين. سافرت الأسرة إلى هونغ كونغ بعد ما فاتح الساعدي إم. آي5 عبر وسيط سائلا إياهم ما إذا كان سيسمح لهم بالعودة إلى لندن. كان لديه انطباع بأنه سيقابل دبلوماسيين بريطانيين في هونغ كونغ. بدلا من ذلك احتجزت العائلة بكاملها من قبل سلطات الهجرة في هونغ كونغ.
تتذكر بنت الساعدي الكبرى خديجة، كان عمرها حينها 12 سنة، كيف عزلت هي وأخويها الأصغر منها، مصطفى 11 سنة، وأنيس تسع سنوات، وأختها أروى البالغة من العمر ست سنوات، عن أبويهم قبل أن يوضعوا جميعا على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المصرية، التي لم يكن بها سوى عدد ضئيل من الرجال الليبيين.
تقول: “بعد فترة وجيزة سمح لي بالذهاب إلى القسم المجاور لأرى أمي. كانت تبكي. أخبرتني أنهم يأخذوننا إلى ليبيا. في البداية لم أصدق. بعدها أدركت أن هذه هي الحقيقة، وكنت خائفة جدا. اعتقدت أننا سنقتل جميعا. ثم طلبوا مني أن أذهب لأودع أبي. كان مقيد اليد إلى الكرسي في قسم آخر وكان ثمة حقنة على ذراعه. أغمي عليَّ”.
بعد أن حطت الطائرة في طرابلس شاهدت خديجة أبويها يؤخذان بعيدا ويُغَمَّيان، ثم تربط أرجلهما بسلك. مصطفى وأنيس عصبت عيناهما. ثم أخذت العائلة في رتل من السيارات إلى سجن تاجوراء.
يقول الساعدي أنه ضرب، هدد وأخضع لصدمات كهربائية. علمت خديجة أن أباها قد عذب: كل بضعة أيام يتم إحضاره ليرى عائلته لبضع دقائق قبل أن يؤخذ بعيدا مجددا. “أعتقد انهم كانوا يفعلون ذلك لزيادة الضغط عليه”. قرر الأطفال الدخول في إضراب عن الطعام، “إلا أنهم لم يهتموا بما إذا أكلنا أو لم نأكل”. أفرج عن الأطفال وأمهم، بعد 10 أسابيع، وسمح لهم بالتسجيل في المدرسة. كان على الساعدي، مثل بلحاج، قضاء ست سنوات في سجن القذافي.
لاحقا من ذلك الصيف، ترك ألن إم. آي6 وليعين مستشارا في ب.ب. وفي نهاية السنة منح لقب فارس.
في 2005 حُظرت الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية في المملكة المتحدة. ثلاثة أعضاء اتهموا بتمويل المنظمة وتزويدها بجوازات السفر المزورة وحكم عليهم بأحكام بالسجن تتراوح بين 22 و45 شهرا. كما تم احتجاز عدد من أنصار المنظمة في المملكة المتحدة بناء على معلومات يقولون أنها انتزعت تحت التعذيب من بلحاج والساعدي. وأخضعوا لأنظمة المراقبة البريطانية – احتجزوا بانتظار إعادتهم إلى ليبيا. بعضهم كان قد منح حق اللجوء سياسي هربا من نظام القذافي، وكانوا يعيشون بسلام في المملكة المتحدة لسنوات. لكن الآن يبدو أن أنظمة المراقبة تستخدم كأدوات للدبلوماسية الدولية.
وقعت حكومة المملكة المتحدة مذكرة تفاهم مع نظام القذافي تعهد فيها الليبيون بعدم إعدام أو تعذيب أو إساءة معاملة أولئك الذين يجبرون على العودة. وتضمن المذكرة اقتراحا من الحكومة البريطانية – بكامل الجدية – يشير إلى أن التزام الليبيين بالمذكرة تمكن مراقبته من خلال مؤسسة تسمى مؤسسة القذافي التي كانت تدار من قبل سيف الاسلام. هذا ما كان عليه سجل القذافي المروع لحقوق الإنسان، وعلى أية حال، بسبب مواجهة معارضي القذافي للقتل والتعذيب والاعتقال التعسفي، لم يكن ممكنا للحكومة البريطانية تسليم المحتجزين لديها. ومن قاض لآخر كانت المحاكم تحكم بأن أي شخص يعود إلى تلك البلاد لن تكون له فرصة أن يحظى بمحاكمة عادلة.
في أبريل 2007 كتب بلير رسالة شخصية إلى القذافي. “عزيزي معمر” هكذا بدأ الرسالة، “أنا واثق من أنك، وأسرتك، على ما يرام. وللأسف، عليَّ أن أعلمك أن الحكومة البريطانية لم يقيض لها النجاح في قضيتها الأخيرة أمام المحكمة المتعلقة بالترحيل إلى ليبيا”. شكر بلير القذافي شخصيا للمساعدة التي بذلها للحكومة البريطانية في محاولتها لضمان الترحيل، ول “التعاون الرائع” بين أجهزة استخبارات البلدين. “أفضل الأمنيات” ثم وقع: “المخلص لك دائما، توني”.
مقيدا، ربما، بحكم المحكمة كان الجانب البريطاني حريصا على أن تظل عملياته المشتركة مع ليبيا طي الكتمان. وقد شددت إم. آي على أنه ينبغي اتخاذ خطوات مشتركة من أجل “تجنب الوقوع في فخ أية مشكلة قانونية [و] كذلك تجنب اكتشاف تلك الخطط المشتركة من قبل المحامين أو منظمات حقوق الإنسان والإعلام”.
في هذه الأثناء، بطرابلس، كان بلحاج والساعدي يستجوبان من قبل ضابطين بريطانيين. في إحدى المرات، عندما ترك بلحاج على انفراد مع زائريه البريطانيين، قال لهما بأنه يتم تسجيل كلامهما سرا وأراهما آثار الجروح على ذراعيه، وأشار، من خلال لغة الإشارة، أنه علق من ذراعيه وضرب. وكان واضحا أن البريطانيين قد فهما. يقول: أحدهما أشار بإبهامه علامة الإعجاب، بينما هزت زميلته رأسها”.
لم تكن الاستخبارات البريطانية تؤمن بأن احتجاز هذين الرجلين والتحقيق معهما جعل المملكة المتحدة – أو العالم- مكانا أكثر أمنا. فمن بين الأوراق التي اكتشفت خلال الثورة توجد مذكرة من قبل إم. آي جهزت مسبقا بخصوص زيارة إلى طرابلس ستقع في فبراير 2005 مؤشرا عليها “سري. للنظر من قبل البريطانيين والليبيين فقط” تحتوي تقييما صريحا متميزا. تقول المذكرة أن احتجاز بلحاج والساعدي نتج عنه أن أصبحت الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية “في حالة حيرة وتشتت” مضيفة أن هذين الرجلين قد حرسا بحماس استقلال الجماعة عن الحركة الجهادية الواسعة، ولكن في غيابهما فإنها أصبحت تقع تحت تأثير آخرين ربما أخذوا يدفعون بها نحوي تبني مشروع القاعدة.
رسالة توني بلير التي تبدأ بـ “عزيزي معمر” كانت واحدة من أولى الأوراق السرية التي ظهرت إلى الضوء حينما انفجرت الثورة الليبية بعد ذلك بأربع سنوات. في 16 فبراير 2011 تجمع متظاهرون، متأثرين بثورتي تونس ومصر، في مدينة البيضاء بشرق ليبيا منادين بسقوط القذافي. هوجمت سيارة شرطة وأضرمت فيها النار في ملتقى طرق يعرف الآن بـ “تقاطع طرق الشرارة”. وعلى أية حال استغرق الأمر أكثر من ثمانية أشهر من القتال الضاري قبل إسقاط النظام. لعب بلحاج دورا في الثورة، وعين قائدا للمليشيا التي سيطرت على العاصمة.
في 20 أوكتوبر اختبأ القذافي، في سرت، داخل أنبوب تصريف. صورة مهتزة التقطت بهاتف نقال سجلت اللحظات الأخيرة للقذافي الذي بذلت بريطانيا كثيرا من الجهد لرعاية صداقته. سحب إلى الخارج، ضرب، طعن في ظهره، ثم مات. ثلاثة من أبناء القذافي ماتوا خلال الثورة، في حين أن سيف الذي أسر تم التخلي عنه من قبل أصدقائه في لندن وقضى ست سنوات في السجن.
واحد من رجالات النظام نجا دون الإصابة بأذى. فقد غادر موسى كوسا البلاد بعد أن أخبر القذافي أنه محتاج إلى العلاج في تونس، حيث استقل طائرة خاصة وطار إلى المملكة المتحدة. فورا التقى بضباط من إم. آي6. بعد فترة وجيزة غادر بريطانيا واستقر في قطر.
وقتها كانت أولى ذخائر الوثائق السرية التابعة للاستخبارات في طرابلس قد اكتشفت وكتبت تقارير عن بعض محتوياتها.ورغم أن الدور الذي لعبته إم. آي6 في اختطاف بلحاج والساعدي وأسرتيهما عُريَّ الآن، فإن السير رتشارد ديرلوف، رئيس الجهاز حينها، أدلى بتصريح علني نادر يدافع فيه عن سلوك إم. آي6. قال أن وزراء الحكومة وافقوا على تلك الأعمال، “لقد كانت قرارا سياسيا. فبما أن الحكومة أفلحت في نزع سلاح ليبيا، كان عليها التعاون مع ليبيا ضد الإرهاب الإسلامي”.
نتيجة لاكتشاف الأوراق، قام بلحاج والساعدي وبعض الرجال الذين احتجزوا وأخضعوا لأنظمة المراقبة في المملكة المتحدة، أو جمدت أرصدتهم بناء على معلومات انتزعت من سجناء لدى القذافي، برفع دعاوى الضرر ضد الحكومة البريطانية وإم. آي6 بسبب ما عانوه من إساءة المعاملة.
سوى الساعدي دعواه في 2012 حين دفعت له بريطانيا 2.23 مليون استرليني كتعويض دون الاعتراف بالمسؤولية عما حدث. أما بلحاج فقد شرع في الإجراءات ليس ضد الحكومة البريطانية فقط، ولكن أيضا ضد ألن وجاك سترو، الذي كان وزيرا للخارجية، ومسؤولا عن جهاز إم. آي6 في الوقت الذي ساعد فيه هذا الجهاز على اختطافه. قال بلحاج أنه سيسحب دعواه مقابل فقط 3 استرليني– بواقع 1 استرليني لكل متهم، شريطة أن يتلقى هو وزوجته اعتذارا صريحا. من المرجح أن هذا لن يحدث. ومن جانب آخر، شرعت سكوتلاند يارد في تحقيق جنائي بخصوص دور أجهزة الاستخبارات في التعاون مع الليبيين بشأن عمليات التسليم. أما الاعتراف بالمسؤولية القانونية فستترتب عنه اعتقالات.
دام التحقيق، الذي أعطي له الإسم الرمزي عملية لايد (Operation Lydd)، ثلاث سنوات. سترو، الذي أنكر دائما تواطأه في أي تسليم أو احتجاز غير قانوني، سئل كشاهد. ألن، الذي امتنع عن التعليق علنا، كان مشتبها به. ويواجه اتهامات محتملة بالمساعدة والتحريض على، وإبداء المشورة وتسهيل، الخطف والسجن غير القانوني والاعتداء أو التعذيب، وإساءة السلوك في منصب عام. احتوى تقرير الشرطة أن ألن كان على صلة بكوسا بخصوص حالتي تسليم. وعلى أية حال، في يونيو من السنة الماضية، قررت نيابة التاج (CPS) عدم كفاية الأدلة التي تمكن من اتهام ألن.
التسليمات الليبية فحصت أيضا خلال التحقيق الذي لم يدم طويلا بخصوص تورط المملكة المتحدة في إساءة معاملة المشتبه في علاقتهم بالإرهاب بعد 11. 9. أنشئت هيئة التحقيق هذه من قبل حكومة ائتلافية عقب الانتخابات العامة 2010 في المملكة المتحدة. ولكنها حلت بمجرد ما ابتدأت تحقيقات الشرطة. بدلا من ذلك سلم عملها للجنة وستمِنستر للاستخبارات والأمن. مرت أربع سنوات دون أن تقدم اللجنة تقريرها. محامي بلحاج البريطاني يسعى الآن إلى مراجعة قضائية لقرار نيابة التاج بعدم اتهام ألن، كما أن دعوى الضرر المتقدم بها الزوجان ينبغي الاستماع إليها في المحكمة العليا. محامو الحكومة كافحوا عدة سنوات من أجل حذف الدعوى، لكنهم في النهاية خسروا أمام المحكمة العليا بداية هذه السنة. السماع من المتوقع أن يحدث السنة القادمة.
سنة 2011، تساءلت ديم إيليزا ماننغهام- بلر، التي كانت مديرا عاما لـ إم. آي5 من 2002 إلى 2007، عما “إذا كانت المملكة المتحدة قد رشفت من ملعقة طويلة طولا كافيا” في التعامل مع الدكتاتور الليبي. وحقا، إن قصة محاولة بريطانيا جعل ليبيا حليفا خلف ملحقا غير مريح للنسخة الأصلية. ففي مستودع ناء جنوب شرق ليبيا اكتشف المجلس الوطني الانتقالي الذي تشكل بعد موت القذافي أن الدكتاتور قد خبأ مخزونا هائلا من السلاح الكيميائي. وجدوا قنابل مدفعية من غاز الخردل ومعدات لتكوين أسلحة كيميائية أخرى. وهكذا اتضح أن القذافي لم يلغ إطلاقا برنامجه للتسلح. قامت المملكة المتحدة والولايات المتحدة بإبرام صفقة مع واحد من أسوأ الدكتاتوريين في القرن الماضي، وقد خدعهم.