هل عُدْنا مَجْزُوزِين
يوسف إبراهيم
الحقيقة أنّنا كنّا مخنوقين ومشنوقين أيّام الديكتاتوريّة الّتي قَولبتْنا وقولبتْ أفكارنا وأبعدتْنا عن إنسانيّتنا لعقود. كنّا مخنوقين في دولة لم تكفل لنا حقّ التعبير عمّا في ضمائرنا، ولم تسمح لنا حتّى بالإفصاح عن بعض مقترحاتٍ لتحسين وضعنا السيّء، وكنّا مشنوقين من أهدابنا بحبل اسمه “القانون خمصطاش” الّذي لولا دعم السلع والوقود لكان سبباً في تصنيفنا تحت خطّ الفقر. كان علينا أن نتنبّه لما نقول وأن نزن أفكارنا بميزان النظام وأن نصوغ ما في خواطرنا ضمن إطار محدّد مسبقاً، وكان لزاماً علينا أن نعيش كقطيع غنم يشكر إن أُعطي ويصبر إن مُنع ولا يقول “بع” أبداً إلّا لتحية وتمجيد الراعي الّذي لم يشعر يوماً أنّه مسؤول عن رعيّته.
لقد كانت منظومة الظلم والفساد والشرّ المتمثّلة في معمّر القائد وأبنائه وحاشيته وقبيلته (وقبائل متحالفة معها) وكتائبه وأجهزته الأمنيّة – تمثّل لدى المواطن الليبيّ البسيط الساذج إلى حدّ البلاهة سدَّ مأرب الّذي يحجز وراءه الرفاه ورغد العيش والحريّة والديمقراطيّة وكلّ أسباب التطوّر واللحاق بركب البشر.
كان المواطنُ الليبيّ -بدائيُّ التفكير- متطلّعاً إلى التخلّي عن عقليّة الأرنب، وطامعاً في إلقاء جلد النعجة، ومتطلّعاً إلى إمكانيّة أن يمشي منتصباً على قدمين، وأن يستخدم يديه الشريفتين في أعمال شريفة مُجزية بدل الهتاف الأجوف وحمل لافتات التأييد وصور العقيد. كان انهيار السدّ سيغرقنا بمئات المليارات الّتي كان يخفيها وراءه، وكنّا متأكّدين من أنّها ستسحر واقعنا اليابس وتحوّله إلى جنّات عدن؛ تخيّلنا ليبيا وقد أخضرّتْ صحراؤها ونبتت في مدنها أبراج وأصبحت شوارعها نظيفة، وتوهّمنا أن تعليم أبنائنا سينافس تعليم فنلندا وأن صحّتنا ستكون أولويّة لدى حكوماتنا المنتخبة من أجل خدمة شعب ليبيا العظيم.
انهار السدّ بقدرة قادر- بعزيمة شباب عاطل جائع جاهل بلا مأوى وبدون مستقبل يخشى عليه. انهار السدّ بلمسة دول قادرة على قراءة الواقع واستشراف المستقبل واستحلاب ما أمكنها من أجل مستقبل أجيالها القادمة. انهار السدّ ولم يجرفنا سيلٌ من مليارات الدولارات، ولم نغرق في نعيم ثروة مجّانيّة جادت بها علينا أرضُنا أرضُ أجدادنا. انهار السدّ ولم تُردم حفرة في طريق ولم تبنَ مدرسة ولم نتمكّن حتّى من الحصول على تطعيمات منتظمة ورعاية صحيّة أوّلية لأطفالنا. ها نحن من جديد بلا حريّة ونكتم ما في ضمائرنا، ونهلّل لتجارب ديمقراطيّة مبتدئة في دول أخرى، لم نتطوّر ولم نلحق بركب أحد. انهار السدّ وجرفَنا سيلٌ عَرِم من انتهازيّين وسُرّاق وأزلام وظلاميّين حوّلوا مجرى نهر الثروة إلى حساباتهم وجيوبهم وحوّلوا أيّامنا إلى صمت وليالينا إلى ترقّب.
ها نحن أولاء نحاول ازدراد غصّةِ من نشَر غصنَ شجرة وهو جالس على طرفه، مخنوقين ومشنوقين، فقراء يلفّنا اليأس، عدنا سيرتَنا الأولى أرانبَ نسبل آذاننا الطويلة على أكتافنا ونعاجاً نمشي على أربع ونبعبع بالهتاف لمن خطفوا انتفاضتنا وبلدنا ومستقبل أجيالنا اللاحقة. لقد صدَق علينا قول ثيربانتيس (صاحب رواية “دون كيشوت دي لامانشا”): “كثيرون ذهبوا لجمع الصوف، ولكنّهم عادوا مجزوزين”.