هل عصر الفردانية إلى زوال (1)
مايكل فولي
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
جاء الإلهام أثناء وقوفي في صف قطع التذاكر في إحدى دور السينما. وأنا أنظر إلى الملصقات حولي خطر لي أن أبطال الأفلام اعتادوا الوحدة – الشرطي الخاص الوحيد يسير بتلك الشوارع الوضيعة، أو الغريب الوحيد يطوف الشوارع الرئيسية – لكن البطل الوحيد استبدل به الآن وعلى نحو واسع الرفيق أو الفريق. حتى أولئك الفردانيون المتطرفون، الأبطال الفائقون، يفضلون الآن محاربة الشر في جماعات. هذه الفكرة ارتبطت في ذهني بعدة تطورات ثقافية لتوحي لي بأن عصر الفردانية idividualism، الذي بدا على أنه دائم، قد يكون، بدلا من ذلك، مؤقتا. وأن ردة الفعل المبالغ فيها ضد الكبح والقمع تصحح نفسها الآن.
الفردانية، التي تعني أن الحرية الفردية the individual freedom وحقوق الفرد تحتل مكانة سامية، انغرست ثقافيا حتى بدت كما لو أنها حقيقة عالمية، مطلقة وخالدة. وفي الواقع فإن الفكرة ليست عالمية وهي، عموما، مقتصرة على الغرب. ليست مطلقة. ولكنها تطور طارئ، وبعيدة عن أن تكون خالدة، وربما أخذت تفقد جاذبيتها.
نمو الفردانية
الأسطورة المؤسسة للفرداني، تقول إنه في التنوير الأوربي في القرن الثامن عشر، بضعة من أنصار العقل الشجعان كسروا قيود القمع الديني وحرروا الفرد، كي يجد ويحقق ذاته الحقيقية ويعبر عنها. لكن تطور الفردانية ابتدأ في وقت أبكر كثيرا، وكان أكثر تدرجا وتعقيدا بكثير، وأسهمت فيه عوامل عديدة دينية ومادية، وكذلك فكرية. خلق نمو التجارة، مرتبطا بمطلب التنوير الفكري بالحرية lbirty، طبقة وسطى من التجار والمزارعين الميسورين والحرفيين الحضريين المؤمنين بالملكية الفردية والمراكمة غير المقيدة للثروة. وإذن فالفردانية كانت شراكة بين الأفكار والتجارة مثلما تحلم الجامعات المعاصرة. إلا أن ما مثل قاعدة لهذين العاملين في هذا التطور الثوري كانت الفكرة المسيحية الأكثر ثورية – الحداثة الصادمة في العالم التقليدي classical world- القائلة بأن الكائنات البشرية كافة متساوية القيمة. هذا لم يخطر ببال الفلاسفة أبدا، وأخذاً في الاعتبار جوع الإنسان العاقل Homo sapiens إلى التراتبية hierarchy والتمايز distinction، فربما لم تخطر ببال أي أحد. بيد أن مطلب التحرر السياسي والشخصي تحول إلى معتقد مؤسس لكنيسة ضد الكنيسة، وهو التطور الذي لخص لبه المؤرخ لاري سييدنتوب بملاحظته أن “العلمانية هدية المسيحية للعالم”.
في القرن التاسع عشر انفصل الخيطان التجاري والفكري عن بعضهما ودخلا منفردين في المشروع الرأسمالي المخاطر entrepreneurism والفردانية الرومانسية. وكانت الأخيرة رفضا للقطيع المادي لصالح العزلة المتواصلة مع الطبيعة السامية على السواحل ذات المناخ القاسي وقمم الجبال. مع نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين تحولت الرومانسية إلى فردانية بوهيمية استعادت استيطان المدينة أو جزءا محدود منها واعتبرت هروبا من أخلاقيات وقناعات المجتمع البرجوازي وامتثاليته.
كل هذه التطورات المتداخلة والمتراكبة ظلت نخبوية، تؤثر غالبا في الفنانين والمثقفين والسياسيين الراديكاليين، حتى نهاية الستينيات حينما اتحدوا في ثقافة جماهيرية شبابية انتشرت عبر العالم لتنتج الفردانية الجهيرة expressive individualism التي أضافت إلى رفض السلطة [المرجعية] والامتثالية الحاجة إلى “اكتشاف نفسك الحقيقية” و “والاهتمام بما يعنيك do your own things”
كان هذا هو المناخ السائد في الفترات الأخيرة: ذروة الفردانية كانت تقريبا في السبعينيات والثمانينيات. وبينما كانت النظريات السياسية والعلمية تعتبر نفسها لا زمنية timeless، كانت الحقائق الموضوعية، كالعادة، تعكس روح العصر zeitgeist. وإذن، لما بلغت الفردانية ذروتها تم إقرارها من قبل نظريتين مؤثرتين. كانت الأولى الداروينية الجديدة في الأحياء التي فسرت التطور evolution على أنه تنافس من أجل البقاء يتحقق من قبل الأقوى و/ أو غالبا من قبل الأفراد الأكثر حذقا. أما الثانية، الليبرالية الجديدة في الاقتصاد، حاججت، اعتمادا على النظرية الأولى، بأن الأسواق، مثلها مثل الطبيعة، ينبغي أن تكون حرة التطور في تنافس غير مقيد بين الأفراد.
تراجع الفردانية
لكن روح العصر تغيرت وواجهت كلا هاتين النظريتين تحديات. عديد من المنظرين التطوريين يحتجون بأن التعاون مهم للبقاء مثل التنافس، إن لم يفقه أهمية. والعديد من المنظرين السياسيين يجادلون بأن السوق الحرة أنتجت لا مساواة واسعة تضر الرابحين الخاسرين. والفردانية أيضا قُوضت في مصدرها الأساسي من قبل علماء الأعصاب، الذين يدعون أن الإحساس الفرداني بالذات المكتملة وَهمٌ ابتدعه الذهن ليواسي الذات عبر منحها شعورا بالاستقرار والتماسك. وإذن، فزعم مارغريت تاتشر الشهير بأنه لا يوجد شيء اسمه المجتمع، يناظر الزعم المضاد بأنه لا يوجد شيء اسمه الفرد. الذات ليست جوهرا مهيأ للاكتشاف، ولكنها سيرورة تفاعل متواصلة مع المحيط [البيئة] وحسب نظرية “العقل الرحب extended mind” هي في المحيط على الأقل جزئيا. وثمة فلاسفة من مثل تشالز تايلور يدعمون هذه الفكرة بحدة حيث أهم تأثيرات المحيط يتمثل في الآخرين، وأن الهوية الشخصية لم تتطور في الجانب الأكبر من خلال النظر إلى الباطن للعثور على الذات الحقيقية، بقدر ما تتطور عبر قبول أو مقاومة هويات أخرى تحاول فرض نفسها. “نحن نتوقع أن نطور أفكارنا واستشرافاتنا ومواقفنا من الأشياء، إلى درجة معتبرة، عبر تأمل منعزل. بيد أنه ما هكذا يكون الشأن مع القضايا المهمة، من مثل تعريف هويتنا، التي نحددها دائما بواسطة حوار، يكون أحيانا معارضا بشدة، لما تريدنا هويات أخرى، بعضها يهمنا، أن نكون عليه. وحتى عندما نفترق عن بعض هؤلاء الذين يهموننا – والدينا مثلا – ويختفون من حياتنا، فإن المحادثة معهم تستمر داخلنا طوال حياتنا”.
وحتى الفيزياء، التي تعتقد في نفسها أنها أكثر المجالات المعرفية موضوعية، غيرت نظرياتها في طبيعة الواقع لتساير المناخ الذهني المتغير. ففي أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان المنهج الذري يفهم العالم على أنه متكون من جزيئات أولية تخلق علاقات في ما بينها. إلا أنه مع نهايات القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين انعكس هذا الفهم تماما بتفسير الواقع على أنه مجال، حشد من العمليات المتفاعلة تخلق الجزيئات وتدمرها. الآن أصبح الاعتقاد الغالب هو أن العلاقات هي التي تخلق الجزيئات وليس العكس. كتب المنظر الفيزيائي كارلو روفلّي: “ليس ثمة واقع إلا في العلاقات بين الأنظمة الفيزيائية. ليست الأشياء هي التي تدخل في علاقات لكن العلاقات تمثل، بالأحرى، أرضية فكرة ‘الشيء‘.”.