“هل تعرف من عدوّك؟”
أنيس فوزي
يعمد السياسيون والزعماء منذ وقت طويل على خلق الأعداء من أجل الإبقاء على أنفسهم داخل السلطة، ومن ثم الوصول إلى قمّتها بكل سهولة، عن طريق إجراءات معروفة وواضحة، لا تحتاج ذكاءً لمعرفتها، ولا التفكير لفهمها.
والأدوات هنا كثيرة، أشهرها بكل تأكيد الدين أو السلطة الروحية التي تسيطر على المجتمع أو تملك داخله نفوذا فارقًا، هذا الزواج بين السلطة والدين لم يخلق في التاريخ إلا الدم والحروب والكراهية، وهو العامل الأول والرئيسي لتخلّف المجتمعات في الشرق الأوسط.
لكن في هذا الشرق نفسه، توجد شعارات أخرى لا تقل خطورة ولا بشاعة عن أدلجة الدين، فالقومية مثلا جعلت المجرمين زعماء، وهم يشهرون في وجوه الرعية أصابع التهديد والوعيد لكل من يخالف أو ينتقد أو يرفض أو حتى يفكر في التقليل من مشروع القومية، وقُتل وسجن وعذّب بسبب هذا الشعار عشرات الأشخاص، وخسرت الأمة معظم مبدعيها ومفكريها الذين باعوا أنفسهم وعقولهم للسلطة واختاروا التزوير والكذب على السجن والموت، وهنا لا أدريِ هل أعذرهم أم استحقرهم، لكن الأهم من كل ذلك أني أتفهمهم.
يجب على الشخص أن يكون واعيا تماما بما يدور حوله، وأن يفهم أن الخوف أسهل من الشجاعة، وطريق الذل أقصر من طريق الكرامة، ولهذا تبقى الشجاعة نادرة وأصحابها قلائل، وعلى ضوء هذا يذكر التاريخ هؤلاء بكل شرف وفخر، ليس لأنهم خارقين، ولكنهم تعبوا حقا، وواجهوا مصيرهم انطلاقا من ضميرهم الحيّ، وفضّلوا الموت والنفي والسجن والغضب على أن يكونوا آمنين كاذبين، أو أن تحميهم سلطة تغصبهم على التزييف وتربّيهم على الجُبن والوضاعة.
إذا خالفت السلطة أنت خائن للوطن، لأن الزعيم هو الوطن، ولأن الذي يملك القوة يستقر له الرأي –على حسب رأي الشيخ- الذي هو نفسه يتمتع بالسلطة التي تجعل كل من يخالفه كافرا، وكل من يرفضه عدوا ليس للوطن فقط، بل لله ورسوله وملائكته واليوم الأول والآخر، وبهذا نجد أن كل واعٍ هو عدوّ، كل صاحب ضمير حيّ هو عدوّ، كل صادق وشجاع هو عدوّ، كل من له رأي مخالف هو عدوّ. وفي محيط مظلم ومعتم كهذا فإن أي نور يتسلل إلى عقل وقلب الواحد منا كفيل بأن يخسر حياته كلها.
المهووسون بالسلطة مستعدون لفعل أي شيء وفي أي وقت من أجل الوصل إلى العرش. حتى لو قتل رفاقه أو سجنهم أو نفاهم، حتى لو تسلّق على أكتاف جنوده أو حراسه أو معاونيه وأنصاره، حتى لو اضطرّ لإبعاد أو اغتيال أي شخص يتمتع بشعبية واحترام من الناس، إنه مستعد للقضاء على أبنائه إذا ما فكروا في خلخلة هذا النظام، أو زعزعة مؤخرته عن الحكم، لأنه ليس زعيما يحبه الناس، وإنما زعيم يخافونه، ولذلك عندما تنقلب أمور الحياة ويضعف أو يسقط هذا الزعيم، ستثور عليه الطبقة التي تخافه أولاً، وربما ستوضع في مؤخرته العصي أيضًا.
المهووس بالسلطة مستعد لأن يفجّر ويخلق العبث والفوضى ويطلق المجرمين والسجناء حتى يقول أنه صاحب قضية وأن هناك أعداء يريدون النيل من الوطن، وأن بقاءه فقط من أجل حماية الوطن، وعلى هذه الشماعة يصل الزعيم إلى الكرسي ويبقى حتى يصيبه مرض محرج يموت معه ويدفن معه. لقد فعل هذا الكثير من الزعماء على مر التاريخ القريب والبعيد، إلا أن الخوف يجعل الناس بلا ذاكرة، يجعلهم ينفون حقيقة يرونها ويسمعونها ويشمّونها كأن ضميرا لم يكن يعيش فيهم يوما.
هل أنت قادر على تمييز عدوّك؟ أم إنك مازلت مصرّا على احتقار من يريد تخليصك من الكذب والزيف والبطش؟ احتقار من يفضح سارقيك ويبح رقبته في ملاحقة متربصّيك؟ أم إنك فعلا ترى الحقيقة عدوًا لك فلا تحبها وتكره من يقولها؟ أو أنك فعلا ترى أن الطغيان والاستبداد سبيل أخلاقي وديني ووطني؟ أم إنك لا تعرف شيئًا ولا تعي شيئًا ويسيل من بين أصابعك التراب الذي لم تستطع الاحتفاظ به نظيفا؟
فكّر مطوّلاً أيها الليبي المقهور المسكين، المحكوم بالمؤبد في زنزانة التطبيل والتصفيق للقتلة والمجرمين، فكّر في أنك تستحق الأفضل، أو أن الأجيال القادمة لم ترتكب ذنبا حتى تولد في محميّة يقودها ذئب ويحرسها كلب وتقتل كل يوما خروفا من زريبتها تقربا إلى الله والوطن. فكّر مطولا، فالإجابة على هذا السؤال لا أحتاجها أنا، بل تحتاجها أنت. ثم بعد ذلك قل عنّي “عدوّ” بل قل كافرا بما أؤمن به، وضالا عمّا أنتمي له، فأنا كذلك حقًا.