هل بالإمكان مصالحة الخصوم الليبيين؟
فيتالي نعومكين
بعد قمة باريس الأخيرة، يبدو كأن بصيص أمل ظهر بإمكانية تسوية النزاع بين «الشخصية القوية» شرق ليبيا، قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على ثلثي مساحة الدولة، والجزء الرئيسي من الصناعة النفطية، ورئيس حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة فايز السراج.
هذا الحدث أعاد جذب اهتمام اللاعبين الدوليين والإقليميين إلى هذه الدولة، التي اعتادوا النظر إليها كدولة بين «الدول الفاشلة»، وإلى سياسة الدول العظمى الأكثر تأثيراً في الأزمة الليبية، وبينها روسيا التي بدا واضحاً ازدياد اهتمامها بهذا البلد في الفترة الأخيرة.
ويعتقد ماتيا توالدو، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، الذي زار موسكو أخيراً، أن الرئيس فلاديمير بوتين يميل من جهة لتقديم دعم محدود لحفتر، ويريد من جهة أخرى لعب دور المُصالح في ليبيا. بالطبع، فإن الخبير على حق في ذلك لأن الدعم المحدود يقدم فعلاً، وهذا ما تشير إليه الاتصالات والزيارات، وكذلك طباعة الدينارات الليبية في دار الطباعة الروسية. لكن موسكو لم تذهب في هذا الدعم إلى ما كان يأمل فيه المشير، بمخالفة حظر توريد الأسلحة إلى ليبيا. عدا ذلك، تم استقبال فايز السراج في موسكو، وأيضاً استقبال وفد من مصراتة.
لكن ليس من العدل لوم روسيا على عدم وضوح موقفها تجاه القوى السياسية الليبية. فمن الواضح أنها تفضل خيار السلام على خيار الحرب، رغم أخذها بالحسبان مراهنة الدول الصديقة لها في المنطقة على المشير حفتر، الذي يقود الكفاح ضد الإسلاميين المتشددين. ويمكن توقع أن تبدي موسكو اهتماماً بالانضمام إلى جهود السلام الدولية، لكنها في هذه الحالة من باب مصالحها الوطنية فقط.
ولفهم جوهر العلاقة بين روسيا وليبيا بعمق، فمن الضروري الرجوع برحلة قصيرة في التاريخ، ذلك أن هناك مكوناً تاريخياً مهماً في هذه العلاقة، من غير المرجح أن عدداً كبيراً من الناس اليوم يتذكر ما جرى بعد الحرب العالمية الثانية من جدل ساخن في أروقة الأمم المتحدة بين الدول المنتصرة حول هذه المستعمرة الإيطالية السابقة، المكونة من ثلاثة كيانات مختلفة، هي: طرابلس وبرقة وفزان. برقة وطرابلس كانتا محتلتين من قبل القوات البريطانية والأميركية. أما فزان، فكانت تحت السيطرة الكاملة للفرنسيين. حينها أرادت الدول الغربية العظمى إبعاد موسكو عن المشاركة في تقرير مستقبل هذه الدولة التي تبدو أنها بعيدة عن روسيا.
لكن موسكو لم تكن غير مبالية بمصير ليبيا. فيتشسلاف مولوتوف، الذي كان وزيراً للخارجية في الاتحاد السوفياتي بين عامي 1939 و1949، غير الميال عادة للذكريات، سرد للكاتب فيليكس تشويف، في شكل غير رسمي، ما جرى في اجتماع وزراء خارجية الدول العظمى، حين قال: «إن موسكو ترى في ليبيا حركة، رغم أنها ضعيفة، لكنها تحررية وطنية، وترغب في مساندتها، وفي بناء قاعدة عسكرية هناك». في هذه اللحظة، بحسب ما قاله مولوتوف، ساءت حال وزير خارجية بريطانيا المنذهل إرنست بيفن لدرجة اضطروا على أثرها لإعطائه حقنة مسكنة.
في الواقع، اقتراح الاتحاد السوفياتي كان لجس النبض – على الأغلب، القيادة السوفياتية لم تكن لتصر عليه (فالاتحاد السوفياتي ليس بحاجة إلى أي قاعدة عسكرية في ليبيا) – لكن هذا الاقتراح استخدم للضغط على الولايات المتحدة كي لا تقوم ببناء قاعدة عسكرية لها هناك كما كانت تخطط، وللضغط على بريطانيا كي تسحب قوات احتلالها من ليبيا. وكحل وسط، قرر قادة الدول العظمى الأربع الإيعاز لوزراء خارجيتهم بتحضير قرار مشترك كي يصادقوا عليه لاحقاً. لكنه لم يتم التوصل إلى قرار كهذا، ذلك أن موسكو أصرت على الاستقلال الفوري لليبيا، التي بإمكانها أن توحد في تشكيلها الأقاليم الثلاثة.
وبما أن الحلفاء الغربيين رفضوا هذا بشكل قاطع، تقدم الاتحاد السوفياتي باقتراح جديد: إذا كنتم لا تريدون هذا الشكل، فنحن جاهزون لنأخذ طرابلس تحت إدارتنا. وهذا الاقتراح أيضاً كان موجهاً للضغط على الدول الغربية العظمى الثلاث، ذلك أنه في موسكو كانوا يعرفون أن خبرتهم قليلة فيما يتعلق بالوضع الداخلي الليبي.
بعدها، سحب هذا الاقتراح من جدول الأعمال، لكن الحلفاء الغربيين لم يستسلموا واستمر الجدل. فتقدم وزير الخارجية الجديد حينها أندريه غروميكو، خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 9 مايو (أيار) 1949، باقتراح منح ليبيا الموحدة الاستقلال خلال فترة أقصاها 5 سنوات، يتم خلالها تقديم الإمكانية لإدارتها عن طريق لجنة مشتركة متعددة الأطراف، تتبع لسلطة مجلس الوصاية الأممية، لكن هذا الاقتراح أيضاً لم يعجب الحلفاء السابقين الهادفين إلى تقسيم البلاد.
وأعلن إدريس السنوسي، بدعم من الإنجليز، استقلال برقة التي اعترفت بها لندن فوراً. أما فرنسا، فعبرت عن موافقتها على نقل برقة وطرابلس إلى الإنجليز، في حال حصولها على إدارة فزان. فطالبت موسكو بإنشاء فوري لهيئات حكم ذاتي في ليبيا كدولة موحدة، وسحب القوات الأجنبية منها، وإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية فيها. ولم يستطع الكرملين الوصول إلى هذا الهدف، لكن في الوقت نفسه لم يستطع أولئك الذين أصبحوا حينها من حلفائه السابقين الوصول إلى هدفهم. وجاء في نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 289 (IV)، بتاريخ 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، الذي تم تبنيه بدعم فعال من موسكو، أن «ليبيا يجب أن تشكل كدولة موحدة ومستقلة وذات سيادة»، ويجب أن تؤسس فيها جمعية وطنية تقوم بدورها بتشكيل حكومة مؤقتة بأسرع ما يمكن.
وفي 24 ديسمبر (كانون الأول) 1951، أصبحت ليبيا دولة مستقلة، ومع أنها فيدرالية، وأصبح السنوسي ملكاً فيها، فإن القاعدة العسكرية الأميركية وقوات الاحتلال البريطانية بقيت موجودة على أراضيها حتى عام 1969.
وقد اعترفت موسكو بليبيا، وأقامت معها علاقات دبلوماسية. وعليه، فإن لدى روسيا اليوم كل الأسس لتعتبر نفسها من المشاركين في توحيد الدولة الليبية واستقلالها.
مشهد تاريخي آخر متعلق بالقرار 1973 لمجلس الأمن، الصادر بتاريخ 17 مارس (آذار) 2011، الذي امتنعت موسكو عن التصويت عليه، ولم تستخدم حينها حق النقض (فيتو)، أملاً منها في أن الدول الغربية العظمى ستبقى ضمن إطار التفويض في إقامة منطقة حظر جوي، ولن تتدخل في الصراع الداخلي بالبلاد.
لكن كما يرون اليوم في موسكو، فإن القيادة الروسية خدعت من قبل الشركاء الغربيين الذين تدخلوا بشكل مباشر في الأزمة الداخلية في ليبيا، وتم تغيير النظام فيها باستخدام القوة العسكرية. واستخلصت موسكو من هذه الأحداث درساً أفقدها الثقة بشركائها لفترة طويلة.
وهناك فرص كبيرة لأن تمتزج الحسابات البراغماتية والجيوسياسية في سياسة روسيا تجاه الأزمة الليبية مع الدروس التي استخلصتها من الماضي، ومع السعي للحفاظ على وحدة البلاد، وهو ما كانت موسكو تقف معه دائماً.