«نيوم»… المشروع والفكر
عبد الرحمن شلقم
مشروع «نيوم» اقتصادي وعلمي فارق. لكنني أراه مشروعاً – فكرياً – كذلك. غرق العربُ عقوداً في مياه الماضي العميقة. طحنوا حباً من الحصى المتراكم على سفوح الخيال، فلا دقيق ولا عجين سوى صراخ الخلاف الصوتي والدموي. منذ سقوط الإمبراطوريات إثر الحرب العالمية الثانية، تدافعت شعوب القارات تبحث عن هوية لها، تباينت الطرق في العقول قبل أن تتباين على الأرض. اتسع فضاء الآيديولوجيات وخاصة الشيوعية التي ارتكزت على القوة الشمولية المؤممة لكل شيء، أدوات الإنتاج وعوامل التفكير. في مقابلها عمَّت الليبرالية السياسية والاقتصادية غرب العالم. بقي العرب هائمين بين حلم قومي تحدُوه رياح الفكر الوحدوي. لم يغب الفكر الديني الذي تسابق على الرحيل إلى الماضي في مراكب متعددة. في أواخر العقود الثلاثة من القرن الماضي بدأ المختصون يحصون المكاسب والخسائر التي تراكمت في كل المسارات على اتساع مساحة العالم. انهيار الاتحاد السوفياتي كان النعش الذي حمل الآيديولوجيا إلى مثواها الذي لا نهوض منه.
الآيديولوجيا المسلحة الفاشية والنازية دمّرت وطنها بقدر ما دمّرت أوطاناً أخرى، أهدرت طاقات بشرية ومادية هائلة في أوهام وعبث دموي قاتل. الصين بعد توحيدها الجزئي تحت قيادة ماو تسي تونغ، عانت سنوات من القفز بين حلقات من الأفكار المتفجرة من الثورة الثقافية إلى حملات التطهير، كلفت البلاد ملايين الضحايا جراء المجاعات، فقدت البلاد طاقات علمية، ارتبكت دواليب الإدارة وتهاوت البلاد في حفر التخلف تحت شعارات دخانية أقرب إلى دوامة العبث. من فقاعات الأوهام والشعارات أطل عقل عملي، خرج من خندق الماضي الشعاراتي هو دينغ سياو بينغ، قاد حركة التنوير العلمي والعملي. نجح في تعبئة القوى الوطنية في رحلة نحو المستقبل قاطرتها التصنيع الشامل، وتوفير ملايين فرص العمل للشباب، وأصبحت الصين المصنع العملاق غير القابل للمنافسة، شجع الشباب على الانطلاق إلى كل أنحاء الأرض للاستثمار والعمل. تراجعت حمى الآيديولوجيا والتطرف، وأصبح العلم والعمل هما النور الذي يقود الجيل الجديد، لا أحد يتحدث عن «الكتاب الأحمر» الذي خطه يوماً الزعيم ماو تسي تونغ. الحقائق على الأرض تمسح الأوهام التي تؤمم الرؤوس.
لا أحد يتحدث اليوم عن الكتاب الأحمر، بل عن المشروعات العملاقة التي جعلت الصين القوة الثانية في العالم اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً أيضا. الشيوعية، لم تعد اليوم الفكر السحري الذي يرسخ حكم وديكتاتورية الطبقة العاملة، بل أصبح الحزب الشيوعي مجرد أداة إدارية وأمنية تحقق تماسك المجتمع الصيني الملياري. حلَّ «المشروع» محل الآيديولوجيا. الشعوب لا تعيش على فتات الكلام ودخان الأوهام، ولا تبني قدراتها وحياتها في خنادق الماضي خاصة في هذا العصر الذي يتحرك بقوة العلم والعمل.
أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية التي أحرقت الأخضر واليابس، وقفت على قدميها بفضل مشروع مارشال الأميركي الذي ضخَّ في أوصالها شحنة مالية فتحت لها أبواب العلم والعمل والابتكار، وكان الإنجاز الحقيقي على الأرض وفي الرؤوس هو، الكفر بأفكار العنف والعنصرية، وصلت القارة إلى قناعة، الوحدة أو الحرب، وتحركت عجلة العقل نحو الوحدة الأوروبية.
وآسيا، شهدت ولادة عملاقين هما اليابان والصين، ونمور كثيرة، كان «المشروع» هو المهندس المعماري والمدني الذي أنجز الصرح الأسطوري.
سنغافورة، المساحة الصغيرة محدودة الأرض والسكان التي لا تمتلك شيئا، استقلت عن ماليزيا وهي من أفقر بقاع الأرض، قدمت نمودجاً لقوة العقل الرهيبة، قادها لي كوان يو إلى أن تكون درساً إنسانياً فريداً على قدرة الإنسان. اشتكى له بعض المقربين من قلة عدد السكان واقترح عليه فتح باب الهجرة إلى البلاد، ردَّ عليه الزعيم قائلا: نعم نعاني من قلة عددنا لكننا نستطيع أن نرفعه دون استقدام أجانب. كيف؟ قال: نجعل كل مواطن يساوي أربعة بـ«العلم والعمل».
مشروع «نيوم» أراه مرحلة، وفكرا، بقدر ما هو مشروع سيقام على أرض سعودية. فكر… لأنه يأتي في مرحلة سيطر فيه الفكر المتطرف الذي دمّر الحياة، واختطف الإسلام وحوله إلى آلة للقتل والكراهية والتدمير. شوَّه صحيح الدين وقدمه للعالم من خلال النمط الدموي المريض. البديل لذلك لا يكون بالفتاوى التي تسفه بالكلام هذا التشوه، ولكن بقوة العقل والعمل، وهكذا يكون تأسيس «مجمع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود للحديث النبوي»، التوأم الفكري للمشروع النهضوي نيوم للعبور نحو أفق المستقبل الذي يجري استقدامه إلى الحاضر.
في حديث طويل مع رئيس وزراء إيطاليا الأسبق ماسيمو داليما وهو من القيادات السابقة للحزب الشيوعي الإيطالي، حول عوامل انهيار الاتحاد السوفياتي، أكد أن معركة العلم هي التي قضت على الاتحاد السوفياتي. براءات الاختراع التي يتقدم بها العلماء السوفيات فاقت تلك التي يبدعها العلماء الأميركان مئات المرات، لكن احتكار الحكومة السوفياتية ملكية الشركات القادرة على شراء ما تنتجه العقول وتحويله إلى تطبيق عملي على الأرض عكس الوضع الأميركي الذي تتسابق فيه الشركات على شراء ما يبدعه العقل العلمي، وتحيله إلى قوة منتجة في جميع الميادين، بل إن الشركات الأميركية تسابقت على شراء كل ما يبدعه العقل في جميع أنحاء العالم. تلك كانت المعركة الحقيقية التي انتصرت فيها الولايات المتحدة على الاتحاد السوفياتي كما رآها السياسي الإيطالي الشيوعي السابق.
عندما تحالفت إسرائيل مع كل من فرنسا وبريطانيا في حرب السويس طلبت إسرائيل ثمنا واحدا لتقوم بدور – المحلل – لذلك العدوان… العلم. قدمت لها فرنسا ذلك الثمن وهو حزمة من مكونات المعرفة المتقدمة في جميع المجالات وفي مقدمتها الطاقة الذرية. بقينا نحن العرب نمضغ الكلام، ندور في خنادق الماضي ولم ترتفع رؤوسنا لنرى سطح الحاضر ومدى المستقبل.
التطرف يُولد من رحم الجهل، والقضاء عليه يبدأ بتعبئة العقول في معركة الآتي. المشروعات العملاقة المؤسسة على التقنية العلمية الجديدة المتجددة تصنع خرائط الفكر الجديد، وتجعل الوهم شطحات عبثية تخنق ذاتها.
نيوم، فكر يستحق أن تجند له عقول النخب العربية لنقاش عميق وواسع ليكون بوابة لمرحلة جديدة من الوعي العلمي يقرأ خرائط المستقبل بمقاييس رسم جديد، تطوى صفحة مرحلة العنعنة التي لا تمشي ولا تطير، لا تلد ولا تبيض.