موعظة إلى الشعب القطري الشقيق
سالم العوكلي
من باب احترامي للشعب القطري الطيب المقبل على الحياة ، ومن منطلق أن الشعوب في الدول غير الديمقراطية لا تؤاخذ بجريرة حكامها، أقدم نصيحة مواطن ليبي تعذب من تدخلات حكام قطر في دولته ومن أكاذيب مؤسساتها الإعلامية، إلى حكومة قطر قبل أن يفوت الأوان . وأخص دولة قطر من بين كل الدول التي تدخلت في ليبيا لأنها اختارت أن تدعم جهات إرهابية ضد التيار الوطني، ولأن تأثيرها في الوضع الليبي كان الأكبر أثرا بسبب ما ضخته من أموال لدعم جماعة الأخوان الليبية المسؤولة أمام الله والتاريخ على إجهاض المسار السياسي الذي اختاره الليبيون بوعي ومسؤولية بعد سقوط النظام.
في الماضي وقبل خمسة عقود كانت ليبيا تنعم بأمان واستقرار وآمال مقل التي يعيشها الشعب القطري الآن، وفي طريقها إلى رفاه المواطن، عندما كان يحكمها ملك طيب عينه على الشعب فقط، ولا يتدخل في شؤون الغير إلا بالخير.
في كتاب مذكراته “بين الإرادة والأمل” يذكر د. علي عتيقة، آخر وزير للتخطيط والتنمية في العهد الملكي، أنه حين انتُدب العام 1967 للالتحاق بالوفد الليبي لحضور اجتماعات الدورة الثانية والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة، طلب من رئيس البعثة الليبية في الأمم المتحدة آنذاك السيد: وهبي البوري، أن يوضح له سياسات المملكة الليبية الخارجية، فقال له البوري : “لقد ذهبت إلى الملك بعد تعييني وزيراً للخارجية وطرحت عليه السؤال نفسه، فكان جوابه كالآتي: أعطيك قاعدتين للسياسة الدولية وقاعدتين للسياسة العربية. فأما في التعامل مع الأولى؛ فاعلم أن القضايا الكبرى؛ كالحرب والسلم ونزع السلاح النووي وغير ذلك من القضايا الدولية الكبرى لا تتصدى لها سوى الدول الكبرى. أما القاعدة الثانية فهي أن الدولة يجب أن تتكلم وتتصرف بقدر حجمها ووزنها في العالم. وأما بالنسبة للسياسة العربية فهناك قاعدتان: الأولى هي أن لا تتدخلوا في الجدال حول النزاعات المتكررة بين الدول العربية لأنكم قد تغضبون أحد الأطراف دون أن تحققوا نتيجة تُذكر. والقاعدة الثانية أنه إذا وصل الخلاف في إطار الجامعة العربية إلى مرحلة التصويت فصوتوا دائما مع مصر”. كانت ليبيا في ذلك الوقت أكبر بأضعافٍ جغرافياً وسكانيا من قِطَرْ، وقد تدفقت فيها ثروة بترولية ضخمة، وتوجد على أرضها قواعد أمريكية وبريطانية، ورغم ذلك كانت حكمة الملك تنطلق من معرفة حجم الدولة وإمكاناتها . سبق أن قال الملك إدريس السنوسي لليبيين إذا كان لديكم رغيف خبز واحد تقاسموه مع مصر. وهو يتحدث من منطلق ما تشكله مصر من أهمية دولية وإقليمية، ومن كونها وقفت مع الليبيين في أشد ظروفهم حلكة وصعوبة، وكانت ملاذ العرب من كل حدب لأن مصر بطبيعتها وطبيعة شعبها حاضنة لكل من يقصدها ومنذ القدم، وبغض النظر عن كل المراحل السياسية التي مرت بها مصر إلا أنها دائما كانت تتمتع بثقل إقليمي كبير و بحضن اجتماعي دافئ، وباستيعاب لكل من يقيم فيها من العرب وغيرهم، لذلك لا أتصور أحدا أن يكره مصر أو يتآمر عليها حتى لو اختلف معها سياسيا.
حين حدث الانقلاب المشؤوم على المَلَكية في ليبيا وتنحى السيد إدريس عن العرش، تقلد السلطة في ليبيا رجل مجنون جاءت به عملية بلاك بوت الاستخباراتية الشهيرة، فورط ليبيا وشعبها في تدخلات سافرة في كل مكان من العالم، وأشعل ودعم حروبا أهلية في دول كثيرة مستغلا ما تمر به من نزاعات أو قلاقل، وسلّط خطاباته الحادة ووسائل إعلامه البذيئة على كل رؤساء وملوك العرب، وما حضر مؤتمر قمة إلا نشز فيه وسبب الفتن في داخله، وصرف مقدرات الشعب الليبي على تلك النزاعات ودعم الجماعات المسلحة المتمردة في كل مكان ، حتى أصبح الليبيون أفقر الشعوب في أغنى الدول، وحين مات ترك هذا الإرث الذي مازلنا نعاني منه ، والضحايا في كل القارات الذين مازالوا يطالبون ليبيا بتعويضهم عما اقترفه القذافي وزبانيته من جرائم في حقهم، لأن مثل هذه الجرائم لا يطالها التقادم.
ارتبط بعلاقات بدول قوية كان يخدم مصالحها في المنطقة رغم ما يظهره من عنتريات زائفة ضدها كما يفعل أردوغان الآن، وتحالف في عقد حكمه الأخير مع أردوغان الذي شكل الوجه الآخر له، ومنحه جائزة القذافي لحقوق الإنسان، حيث جاء أردوغان ومضى لاستلام هذه الجائزة وهو يسير على جثث وجماجم من نكل بهم القذافي من طلاب ومثقفين وحقوقيين وضباط، وعلى مسافة أمتار من الثلاجة التي يحتفظ فيها القذافي بجثث معارضيه من سنين طويلة، استلم أردوغان جائزة القذافي لحقوق الإنسان، وعاد بعقود مأهولة بعشرات المليارات للشركات التركية، وحين بدأ حراك فبراير باع صاحبه وحليفه الاستراتيجي القذافي واشترك في التحالف الدولي الذي أطاح به وبنظامه، أما روسيا حليفته منذ عقود فاتخذت موقف الحياد في مجلس الأمن وتركت الدول الكبرى التي رأت أن صلاحية القذافي كعميل انتهت لتنقض عليه بكل ترسانتها المدمرة. خاض القذافي حروبا مباشرة أو حروبا كلامية مع كل جيرانه من الدول العربية والأفريقية والتي انتهزت أول فرصة وانتقمت منه عبر تعاونها مع الحراك الداخلي ومع التحالف الذي أطاح به، ولن نذهب بعيدا فقد كان أقرب زعماء دول الخليج العربي إلي القذافي الشيخ حمد أمير قطر، تشكلت بينهما صداقة قوية لدرجة رغبة القذافي في مصاهرة الأمير عن طريق ابنه خميس، كما وضحت المكالمات المسربة تحالفهما ضد السعودية والتخطيط لاغتيال الملك فهد ونشر الفوضى في السعودية عبر دعم الجهاديين، وحين هاجم الأمير ولي العهد السعودي عبدالله القذافي في مؤتمر القمة العربية 2003 المعقود بشرم الشيخ لاذ القذافي بالشيخ حمد كي ينجده، وحين بدأ حراك فبراير كان الشيخ حمد وحكومته أول من انقلب عليه وشاركت حليفته في الخليج حكومة قطر بحماس منقطع في التحالف الدولي الذي دمر قواته وبيته وقتل نصف أبنائه، وانقلبت عليه قناة الجزيرة بعد أن استطاع احتواءها وتوظيفها في العقد الأخير من حكمه.
للأسف أمير وحكام قطر الآن يتخذون هذا النهج الخطير في التعامل مع القوى العظمي، والتلاسن الذي يصل البذاءة مع دول الجوار، والتدخل في بلدان بعيدة عنهم، وإثارة الاضطرابات والفتن بها، مخدومين بشبكة إعلامية ضخمة لم تنجُ من سمومها دولة عربية، وحتى مصر التي يحبها الشعب القطري ولا يتنفس ويرتاح إلا فيها.
حين كانت وفود الثورة الليبية تحج في بداية حراك فبراير إلى الدوحة وتعود بالملايين من الدولارات، كلٌ حسب أهميته، ذكرني ذلك بقوافل الحجيج من العالم التي كانت تتقاطر على باب العزيزية وتعود بحقائب المال دون حساب أو رقيب، وهي أموال الشعب الذي تخطى فيه مليون مواطن خط الفقر في إحدى أغنى الدول في العالم، والفارق أن الشعب القطري الصغير العدد بالنسبة لثروته يعيش الآن رفاها بمعدل دخل عالٍ، لكن الضرر الكبير والخطر القادم متأتي من السياسات الخارجية وليس الداخلية، فرفاه الشعب قد يؤمن النظام من أي ثورة داخلية ضده، لكن الخراب الذي تحدثه التدخلات القطرية في دول أخرى، وسيول الدم التي تسببها أموالها، واللعب الخطير مع الكبار، لن تكون عواقبه سهلة حين يحين وقت تصفية الحساب ويختفي الأصدقاء والحلفاء خلف مصالحهم التي تبدلت، ومثل هذه الوتيرة في التدخل لها منحنى يصل ذروته ثم يبدأ في الهبوط نحو الكارثة، خصوصا التدخل من قبل الدول الصغيرة التي لا تقدر حتى على حماية نفسها، وتستعين بقوى وقواعد خارجية لحمياتها مرتبطة بمصالح أصحاب هذه الحماية التي قد تنقلب عندهم المعادلات مثلما انقلبت على شاه إيران، وعلى القذافي وصدام والبشير وعلي صالح وغيرهم من الأمثلة الزاخر بها التاريخ، فصديق اليوم قد يكون عدو الغد، ما بالك حين يكون هذا الصديق الزائف هو المسؤول المباشر عن حمايتك وأمنك .
وللأسف ساسة الدوحة يتخذون الآن هذا الطريق الذي مضى فيه القذافي ردحا من الزمن وهو يسير في المحافل الدولية مثل الطاووس معتقدا أن ثروته الضخمة ستحميه وستجعل فاتحه أبديا وحكمه أزليا، خصوصا بعد أن سلّم الأمريكان مشروعه النووي كرشوة، وعاد إلى حضن الدول الكبرى معتمدا على مصالحها بمئات المليارات التي رشاها بها، وأدرج نفسه في تحالف الحرب على الإرهاب رغم انه ابرز داعمي الجماعات المسلحة الإرهابية في كل بقاع الأرض، متاجرا بالقومية حينا، وأحيانا بالوجدان الديني الذي جعله يتحالف في عقديه الأخيرين مع جماعة الإخوان المسلمين ومع كل الحركات التي تتخذ الإسلام برنامجا سياسيا، وفي النهاية باعته هذه التيارات مثلما باعت وقتلت داعمها وحاضنها الكبير أنور السادات.
الدولة التي لا تتكلم وتتصرف حسب حجمها ستدفع ثمن تضخمها وانتفاخها غير المنطقي مثلما قال الملك إدريس، والدخول إلى حلبة الصراع العالمي للوزن الثقيل بوزن الريشة سيكون مدمرا طال الزمن أو قصر، لأن هذه القوى الكبرى تتدخل في كل مكان وتدعم الجماعات المتمردة وتثير الفوضى لكنها قادرة على ذلك وقادرة على حماية أوطانها من أي تهديد أو ردة فعل، وقادرة على تقديم حلفائها الصغار أكباش فداء عندما يحين وقت التضحية والتكفير عن الخطايا.
أما الثروات الضخمة وشبكة المصالح فقد راهن عليها القذافي قائلا ليبيا ليست تونس ولا مصر، لكن حين تغيرت معادلات العالم وموازينه لم تنقذه من تلك النهاية المروعة، ولم يجد له صديقا في هذا العالم، وحتى القلة من حلفائه المرتبطين معه بمصالح كانوا أول من تأمروا عليه، والجميع يذكر خطابه الذي عبر فيه عن الصدمة من حلفائه خصوصا حكام قطر الذين قال لهم في خطابه: “هذي أخرتها يا قطريين”.
هذه من مواعظ التاريخ أخص بها الشعب القطري الصديق الذي نتمنى له كل الخير وأن لا يعاقب مثلنا بجريرة حكامه، وموجهة ضمنيا لكل الدول العربية التي لا تعرف حجمها، وتتدخل بشكل أو آخر في شؤون الدول الأخرى وتثير فيها القلاقل والحروب. فالتاريخ يمهل ولا يهمل، ونحن كشعب ليبي نعرف ذلك جيدا ومازلنا ندفع ثمن فاتورة القذافي الباهظة حتى الآن ولأجلٍ لا نعرفه.