موسم لعان الربيع
فرج عبدالسلام
مع إطلالة يناير من كل عام، يحلُّ ما يمكن تسميته بموسم التطيّر، الذي يصل أحيانا إلى صبّ اللعنات على ما اصطُلح على تسميته بالربيع العربي، حيث يخوض الكثيرون، في عِرض الثورات الشعبية التي اجتاحت بعض بلاد العرب لتهز أنظمة ومؤسساتٍ ظنت أنها راسخة، وباقية أبدا، ما شاء لها مؤسسوها وزبانيتهم. وهكذا اعتدنا سماع تلك الأسطوانة المشروخة التي تغدق على ثورات الربيع أقذع الأوصاف، وحيث يمعنُ هؤلاء المتطيرون في تعديد مناقب تلك الأنظمة التي هوت وتلك الآيلة للسقوط، وما وفّرته من عزة، وأمنٍ وأمان.
لكن من المؤكد والمقبول أيضا بعد هذه السنين العجاف، والاضطراب والفوضى السائدة في بلدان الثورات، أنّ أسئلة عديدة تطرح نفسها، كلما حلّت الذكرى. أولها حول صحة تسمية الربيع لتلك الإرهاصات الثورية التي حدثت في خمس دول فقط من أصل اثنتين وعشرين وصارت التسمية تعبيراً واضحا عن حلم تبدّد وأملٍ لم يكتمل.
ولعل السؤال الأبرز الذي يخصنا في ليبيا هو: هل ما حدث عندنا كان بالفعل ثورة شعبيةً حقيقية، أم أنه مجرّد انتفاضة تطورت وتدخّلت في تداعيتها ظروفٌ مختلفة وشائكة، قد يُضيف إليها “أهلُ اللعانِ” عنصر المؤامرة الخارجية التي تستهدف الكيان الليبي والسيطرة على مقدّراته، بل يرون في هذا العنصر السببَ الأساس في تلك الثورات التي خُطّط لها في الغرب. ورغم ما في هذه النظرية من سذاجة وأنها لا تستند إلى قراءة سليمة، لكننا نقرُّ أنّ البحث والتحليل الموضوعي المتجرد، هو القادرُ على شفاء غليل المشككين في مبررات قيام ثورات الربيع، في حال تمادوا في الإنكار وتغاضوا عن الرجوع بأنفسهم إلى التاريخ الطويل المغلف بالتراجيديا لنظام الحكم الذي قامت ضده الانتفاضة/ الثورة الليبية.
هذه التراجيديا، وهي وصفٌ ملطّفٌ للغاية، التي دامت في وطننا لأربعة عقود، هي ما أدت إلى عسكرة الثورة، حين بادر رأس النظام إلى التصريح باستخدام السلاح في مواجهة المتظاهرين، وإراقة دماء الليبيين بأيدي بني وطنهم بالدرجة الأولى، وهو ما أتاح الفرصة أمام التدخلات الخارجية المباشرة. . وتلك التراجيديا قادت الليبيين إلى تراجيديا أخرى نعايشها الآن، صعّبت التوافق بين مختلف القوى السياسية، وبين المكوّنات الاجتماعية والمناطقية. وتكاد تقودنا من جديد إلى دوامة حكم العسكر. فحيثُ ما بحثتَ في مسيرة الثورة منذ انطلاقتها إلى اليوم، ستجد بوضوح تام بصمات العقود الأربعة العجاف، التي أنتجت هذا الكم الهائل من السوء والخراب والدمار. وإن كان من الإنصاف الإشارة إلى تدخّلِ عنصرٍ مهم وحاسم على خط الثورة الليبية، يُطلق عليه البعض تلطّفا “الإسلام السياسي” الذي اندمج وتحالف في أغلب الوقت مع الإرهاب المنفلت الذي عمّ المنطقة تحت راية الإسلام وراية دولة الخلافة المزعومة التي استحضرت لنا قوما دلّت أفعالهم وأقوالهم على أنهم قدموا لتوّهم من كهوف التاريخ وأقبية عصور الظلام. ومذّاك إلى الآن دخلت الثورة الليبية في مرحلة توهان، وفي كل يوم تبرُز نقاط خلاف جديدة سمجة تمنع لقاء الليبيين على توافق ينقذ البلد من الصراع، والتشظي الذي يلوح في الأفق.
نظرا لما نراه من سوء رأي وتدبير، فقد جعلنا السياسيون العرب، والليبيون أولهم بالطبع، نفقد إيماننا بقدرتهم على الخروج بنا إلى برّ الأمان، وقد يكون من المستغرب أن نسمع من عمرو موسى، الأمين العام السابق للجامعة العربية، الذي كان شاهدا على انطلاقة الحدث الأكبر في التاريخ العربي المعاصر، وتطوراته الإيجابية منها والسلبية، حيث قال في ندوة عمّان بالأمس ما معناه “إن الربيع لم يكن ربيعا، لكن الربيع قادمٌ لا محالة” وسواءٌ صدق تحليله ونبوءته أم لا. إلاّ أنه يجب الإقرار بأن الأنظمة التي استولت على السلطة والثروة لعشرات السنين، فشلت في تحقيق الحد الأدنى من مطالب الناس، ولم تحسن التصرف تجاه تحديات الحاضر، وقضاياه الملحة، وعلى رأسها الحرية والديموقراطية، فكان لا بد من الثورة. ولأن الثورة ستظل الأكثر تعبيرا عن إرادة الناس وأحلامهم، رغم ما قد يرتبط بها من فوضى ودمار، إلا أننا نشدد على أن ثورات الربيع العربي كانت وستبقى خير ما أنجزته الشعوب لانتزاع حقوقها وإنسانيتها من مخالب تلك الأنظمة الفاسدة المستبدة. وفي بلدنا سيبقى الانطلاق العفوي نحو ساحات الثورة وميادين الحرية، هو العمل الأجمل والأبهى الذي قام به الليبيون منذ زمن طويل، فليكف اللاعنون عن نهجهم العبثي، لأن قطار الثورة انطلق، وسيصل إلى وجهته المرجوة استجابة لصيرورة حركة التاريخ التي لا يمكن إيقافها، حتى بالتذرع بأنه في زمن الاستبداد يمكنك شراء “أربعين رغيف خبز بدينار واحد”.