اهم الاخباركتَـــــاب الموقع

موت مُنتج الحياة

عمر أبو القاسم الككلي

“وقال لي: البكاء فعل لياقة”*

بلخير الغدامسي

مات أخي الأكبر، علي بلقاسم محمد شلِّيق، الذي كانت الحياة معه أبعد ما تكون عن الكرم. لم يطلب منها سوى الستر، وقد تمكن من مداورتها ونيله منها. كانت شحيحة معه، فليَّن شحها بالجد والكدح. لم يضع نفسه في مواجهتها ويصارعْها، وإنما سار في ركابها وأذعن لشروطها وعاش، في نفس الوقت، بكامل كرامته مرفوع الرأس.

في الظروف التي اكتنفت طفولة علي لم يكن يخطر على بال والده أن يلحقه بالمدرسة، فتربى على الحرث والزرع والحصاد: على الدأب والعمل المضني.

لاحقا أصبح عاملا زراعيا فنيا مختصا في تقليم الأشجار وغرسها وتلقيمها واشتغل، بصفته هذه، مع منظمة الأغذية والزراعة، التابعة إلى هيئة الأمم المتحدة (الفاو)، فكان يُرسل إلى المدن الليبية، شرقا وجنوبا وغربا، لتدريب آخرين والقيام بأعمال داخل نطاق مهنته. وخلال حياته المهنية هذه، التي استدامت عقودا، قلم وشذب ولقم وغرس آلاف الأشجار في أنحاء الوطن كافة، يأكل منها الناس والطير ويستظل بظلها الخلق وتبني فيها العصافير والحمائم أعشاشها وتسهم في إشاعة الجمال.

لقد منحت، يا علي، عمرك للنماء والتعمير وإنتاج الخيرات: إنتاج الحياة، التي لم تتمتع منها إلا بما يكفي للستر.

كان طويل القامة نحيلا، هادئا ومسالما وحنونا، وقانعا بما يمكِّنه كدحه من استخلاصه من الدنيا، دون شكوى أو تبرم.

ومن علامات كده أنه دخل، في سن متأخرة، دروس محو الأمية ونال شهادة بمحو أميته.

ما يعزي النفس أنه لم يمرض مرضا يعجزه عن الحركة ويجبره على القعود والاعتماد على رعاية الغير له في شؤونه جميعها. ذلك أنه ما من شيء يذل الإنسان، في تقديري، أكثر من عجز الشيخوخة والمرض المقعد. لقد رأيت أمي وهي مقعدة عاجزة لدى أختي وكيف كانتا، كل بطريقتها، تعانيان. قلت لي أختي: أحاول أن أتحلى بالصبر قائلة في نفسي: فلأعتبرها طفلة صغيرة لي وأرعاها مثلما كنت أرعى أطفالي الصغار. لكن الأمر مختلف جدا ومرهق. كما أذكر أن إحدى بنتي ماركس قالت، بعد وفاة أبيها الذي أعجزه المرض آواخر عمره: لقد فرحنا بموته.
لا أذكر في أية رواية قرأت قولا لإحدى الشخصيات محتواه: “الموت لا يخيف، لأنه لا يأتي إلا في نهاية الحياة”!

ومن حسن حظ المرء، في تصوري، أن تحين نهاية حياته قبيل آوان عجزه.

* من: كتاب الحديقة: وهو سفر الخلافة. متنٌ: الشيخ بلخير الغدامسي، حاشيةٌ: أبو الحارث موسى بن إبراهيم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت- لبنان، 2015

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى