مواجهة الدولة واللادولة
كرم نعمة
العراقيون صار بإمكانهم إدراك الضرر الوطني والسياسي الذي تشكله الميليشيات على مستقبل البلاد فهم سيتعاطفون مع أي قوة تعمل على إنهاء سطوة المجاميع الفاسدة وهذا عامل مساعد للدولة في أي مواجهة.
لنفترض جدلا توجد دولة في العراق! في حقيقة الأمر لم تعد هناك دولة منذ عام 2003، إلا أن رئيس الحكومة الأخير مصطفى الكاظمي كان يدفع باتجاه إعادة الثقة بالدولة، كلما تسنى له ذلك. يدرك أن العراقيين برمتهم فقدوا الثقة بكل ما يصدر عن المنطقة الخضراء منذ أن تشكلت أول حكومة افتراضية في تلك المنطقة بعد الاحتلال الأميركي.
لم تكن هناك حكومة حقيقية ولم تزل، وأقصى ما كانت تملكه هو حماية نفسها في تلك المنطقة المحصورة على ضفاف نهر دجلة.
كان من بين آخر الرسائل التي كتبها الكاظمي قبل يوم واحد من محاولة اغتياله، تتحدث عن الثقة المستعادة بالدولة بعد محاكمة قتلة الناشطين من عناصر الميليشيات الطائفية.
خاطب الكاظمي رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان بالقول “يعرف جنابكم أن التحديات الثقيلة التي تطلبت تكاتف المخلصين في هذا الوطن من أجل إنجاح مهمة الحكومة التي تشرفت برئاستها، كانت أكبر من مجرد تحديات اقتصادية وأمنية وصحية وسياسية، بل تعدت كل ذلك إلى مقدمات خطرة لفقدان ثقة المجتمع بالدولة بكل توصيفاتها المعروفة، عندما بدأ الإيمان بالعدالة الاجتماعية يهتز في ضمائر الناس”.
سيناريو الصدام غير مرجح لا عند الكاظمي ولا عند خصوم الحشد الشعبي. لأن ثمنه من دماء العراقيين أكبر من فكرة استعادة هيبة الدولة
كان من المفيد لمفهوم الدولة في العراق استعادة تزامن رسالة الكاظمي إلى زيدان مع المؤشرات التي تتحدث عن مواجهة محتملة بين جيش الدولة وميليشيات اللادولة متمثلة بالحشد الشعبي بعد محاولة اغتيال الكاظمي.
لنعد إلى افتراضنا أن الكاظمي والجيش الحكومي يمثلان الدولة. ولا نحتاج مثل هذا الافتراض عندما نتحدث عن ميليشيات الحشد الشعبي بوصفها ممثلا واقعيا عن اللادولة.
فهل بمقدور المراقب رسم سيناريو مواجهة محتملة بين “الدولتين” داخل العراق، ليصل بعدها إلى ترجيح المنتصر؟
تجربة الفترة الماضية توصلنا إلى قناعة أن الكاظمي لا يريد مثل هذه المواجهة، لأنه ليس قادرا على دفع ثمنها أولا، أو على الأقل لا يمتلك الثقة المطلقة لحسمها لصالح الدولة. لذلك بقي مهادنا لصلف الميليشيات وإن وصل إلى إهانته علنا في الشارع وفي وسائل الإعلام.
لكن السيناريو الحوثي مرسوم وجاهز لدى الحشد الشعبي للسيطرة على الحكومة، على الأقل للتعبير عن نفسه أمام أوليائه في إيران. بطريقة أننا لم نفشل في الانتخابات لولا تزوير الكاظمي ومفوضية الانتخابات التابعة له. وها نحن قادرون على استعادة السلطة بغير الانتخابات.
قادة الميليشيات يدركون أن إيران على وشك استبدالهم بآخرين بعد الهزيمة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فهي تريد ممثلين شركاء حقيقيين يراقبون ما يجري في الحكومة العراقية، وليس مطرودين منها. وهم اليوم بحاجة إلى إثبات وجود لتأكيد الولاء لطهران. وورقة الصدام مع الحكومة وضعت على طاولة الحشد الشعبي بمجرد إعلان نتائج الانتخابات، ومما يسعد الحشد الشعبي بذلك أن نوري المالكي الذي حظي بنسبة جيدة نسبيا من المقاعد في البرلمان، يدرك أنه إن لم يضمن حصة مؤثرة داخل مركز القرار الحكومي ستكون بداية نهاية عمره السياسي الأجوف.
هكذا تحالف الحشد مع المالكي في المواجهة المحتملة مع الدولة. وما يزيد ذلك أن المالكي لا يطيق أن يتم التجديد للكاظمي في رئاسة الحكومة. فذلك واحد من أكبر التهديدات له.
باختصار يدرك قادة الميليشيات وفق تصريح لبرلماني نشرته “العرب” هذا الأسبوع أن “تحالف مقتدى الصدر – مصطفى الكاظمي والفريق أحمد أبورغيف رئيس اللجنة العليا للتحقيق بقضايا الفساد الكبرى، قد يؤدي في النهاية إلى تعليق جثث بعض قيادات الميليشيات في ساحة التحرير، الأمر الذي سيدفعها إلى التمادي من أجل قبولها كشريك قوي في أي حكومة مقبلة ومنحها مناصب سياسية مقابل مقاعدها البرلمانية التي خسرتها”.
هناك ما يكفي من الملفات الفاسدة على كبار قادة الحشد بوصفهم سراق أموال الدولة، وعند فتح أول ملف سيتم إدانتهم من دون الحاجة إلى فتح الملفات الأخرى.
وكانت إدانة عناصر فرق الموت في فيلق بدر والعصائب بقتل الصحافي أحمد عبدالصمد وزميله المصور صفاء غالي في البصرة، بداية مشجعة للقضاء العراقي إذا استمر في محاكمة القياديين في تلك الميليشيات.
حسنا، ماذا عن الصدام المحتمل، إن حصل، ولمن ترجح كفته؟
صار بإمكان غالبية العراقيين إدراك الضرر الوطني والسياسي الذي تشكله الميليشيات على مستقبل البلاد، فهم سيتعاطفون مع أي قوة تعمل على إنهاء سطوة تلك المجاميع الفاسدة. ذلك عامل مساعد للدولة في أي مواجهة مرتقبة.
لكن السؤال عن جمهور الميليشيات الذي ما يزال قائما، أليس هناك الكثير ممن خرج متظاهرا يدافع عنهم؟
في حقيقة الأمر أن الوضع البائس الذي يعيشه العراقيون يدفعهم إلى القبول بأي فرصة تقدمها الميليشيات، وهكذا خرج عناصر الحشد للتظاهر بغية الحفاظ على رواتبهم. لكن لا أحد من قبل الذين يتظاهرون ضد نتائج الانتخابات من أنصار الحشد الشعبي قادرا على تقديم تسويغ وإن كان واهيا، يبرر خروجه للتظاهر، غير أنه يدافع عن راتبه داخل الحشد.
في المقابل، ماذا لدى الدولة كي تثق أنها قادرة على إنهاء الميليشيات بالقوة؟
قال محدثي وهو مصدر إعلامي مقرب من قوات جهاز مكافحة الإرهاب، إن قوة الميليشيات داخل الحشد ليست بالقوة التي كانت عليها عام 2015 مثلا.
إن قادة الميليشيات اليوم مجموعة من الفاسدين الذين نقلوا أموالهم إلى بيروت وطهران، ولديهم هناك ما يضمن حياتهم في أقرب لحظة هروب، والأهم من ذلك أنهم غير منظمين بما يكفي ومخترقون من قبل جهاز مكافحة الإرهاب.
لم تكن هناك حكومة حقيقية ولم تزل، وأقصى ما كانت تملكه هو حماية نفسها في تلك المنطقة المحصورة على ضفاف نهر دجلة
يستطرد محدثي بالقول: إن الميليشيات قادرة على الاستعراض، وذلك ما يحصل غالبا، بتحريك سياراتهم المحملة بالعناصر المسلحة للهتاف في مناطق بغداد، غير أن مفهوم المواجهة لا يعني الاستعراض وحده.
ويؤكد أن قوات مكافحة الإرهاب مدربة على مفهوم “القتل” فكل واحد منهم منذ مواجهات داعش قتل على الأقل حزمة أفراد، لذلك لا يرف له جفن عندما يقوم بقتل عناصر الميليشيات.
ذلك أقسى سيناريو دموي جديد يحدث عند أي مواجهة محتملة بين القوات الحكومية وميليشيات الحشد الشعبي.
ومع أن مصدري أكد على ثقة قوات مكافحة الإرهاب بقيادة عبدالوهاب الساعدي على إنهاء سطوة الميليشيات خلال فترة أيام قليلة، إلا أن سيناريو الصدام غير مرجح لا عند الكاظمي ولا عند خصوم الحشد الشعبي. لأن ثمنه من دماء العراقيين أكبر من فكرة استعادة هيبة الدولة.