منتدى دبي: نحو حوار حضاري
رشيد الخيّون
تناول منتدى الإعلام العربي بدبي في دورته السادسة عشرة موضوع الحوار والتعايش، آليات الحوار وتقاليده وثقافة التعايش، في زمن تحول فيه الحوار من المناظرة والقطع بالحِجة إلى الصّراخ بغياب فن الاستماع، حتى استحال إلى معاندة، وللبحتري (ت 284هـ): «أحضَرْتَهُمْ حججاً لو اجتُلِبَتْ بها/ عُصْمُ الجِبَالِ لأقْبَلَتْ تَتَنَزّلُ ».
تحت هذه الحاجة جاء عنوان المنتدى «الحوار الحضاري»، وأجد فيه استدعاء لذاكرة العواصم التي كانت، يوماً من الأيام، منبتاً لقيم الحوار والمناظرة، لهذا أصبحت آنذاك قبلة لطالبي العِلم والتَّحضر، ومن لم يطلب التبغدد من بغداد والتمدن والثَّقافة من دمشق والقاهرة وبيروت وتونس وسواها؟! وها هي قد أصبحت طاردة لما غرست من تقاليد مدنية، ويكفي أن آلاف أصحاب الفنون والأفكار من أبنائها قد هجروها اضطراراً بعد أن أخذت الكلمة تواجه بفتوى قتل وتكفير، مع طغيان الزعيق الطائفي.
وضع مثقفو تلك الحواضر كتباً ورسائل في آداب الحوار: «عندليب المناظرة»، و«في آداب البحث والمناظرة»، «في حكم المناظرة»، و«تقرير قوانين المناظرة». وقبل ألف ومئتي عام وضُعت أُسس للحوار أو المناظرة، كرسها عبد الله المأمون(ت 218هـ) في مجالسه الكلامية والثقافية، فشدد على أن: «الشتم عيُّ والبذاء لؤم، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات، فمَنْ قال بالحق حمدناه، ومَنْ جهل وقفناه، ومَنْ ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلاً، فإن الكلام الذي أنتم فيه من الفروع» (ابن طيفور، كتاب بغداد). فتوجه آنذاك الأدب والشعر إلى وصف المناظرة والحوار، وتحول الفخر من السيف والرمح إلى قوة الكلمة والحجة والباع في الجدل.
تجمع دبي، والإمارات كافة، شتى البشر، وعلى اختلاف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم وألوانهم، وكلٌّ منهم يجد مسجده أو كنيسته أو معبده، والقانون يقف بين الجميع حارساً لهذا التنوع، فالبناء بحاجة إلى عقول وسواعد، ومن مختلف بقاع العالم، ولو لم تُهيأ بيئةٌ للاختلاف ما تواصل البناء، وهو يمتد في عرض الصحراء وداخل البحر، مثلما لا تتوقف معارض الكتب، ومهرجانات الفنون، ولقاءات مؤتمرات التسامح.
إنها بلاد جديدة في التكوين، نشأت على رمال وشواطئ مالحة لا تألف الشجر، وقد يقول قائل: والنفط؟ نقول وما قيمة النفط، إذا لم يجد عقلاً وضميراً يستغله لإقامة هذا البناء، وبالمقابل ماذا فعل النفط للعواصم، مِن التي ذكرنا، غير ما نرى ونسمع من كوارث؟! قبل نحو أربعين عاماً عكس محمد مهدي الجواهري (ت 1997) محنة غرس فسيلة في الرمال العطشى، لتصبح مِن أكثر البلدان في عدد النخيل وإنتاج التمور، مقابل سهولة الغرس على شواطئ الأنهر وطينها الخصب، لكن نخيلها يقف بلا رؤوس. قال، وعلينا فهم المفارقة: «مِن الملح الأجاج مشى رخياً/يُرقص نخلةً شبٌ برود» (أبوظبي، أفتيان الخليج 1979).
يدرك القائمون على هذه البلاد أن ارتفاع العُمران، وإدامة وجوده، بحاجة إلى ترسيخ تقاليد تضمن للبشر العيش متجاورين متحاورين. جعل هذا الإدراك المرأة، المبتلية بالتحرش في أقدم عواصم المنطقة بالوجود والعمق الحضاري، لا تخشى الإيذاء ولا تتوقعه، تخرج بحماية القانون، والذي أصبح عُرفاً لأهل البلاد والوافدين، تخرج بلا وجلٍ على شاطئ البحر، وفي أطراف الصحراء، حتى تشكل حوار راقٍ في الطريق والسوق، لا تشعر أنها الحمل والرَّجل هو الذئب، فلا حوار حضاري من دون تلك التأسيسات القانونية والتشريعية.
لا يمكن لعمران المدن والنفوس أن يرتفع، ويصبح تقليداً راسخاً، إذا لم يتشكل حوارٌ حضاري، بين الأديان والمذاهب، والحوار الذي نتحدث عنه ليس بالضرورة أن يكون كلاماً أو مناظرةً، إنما الاختلاط في المكان بلا كراهية وعنف وإقصاء، فهذا يمثل جوهر الحوار وغايته، وحوار الكلام وسيلة لهذه الغاية.
كانت أجواء المنتدى الإعلامي، تجمع بين القفزة في التكنولوجيا والالتفات إلى الماضي، فجاءت تسمية قاعات الحوار: «بابل»، و«تدمر»، و«الساروق» وسط اختلاط البشر، على مختلف أجناسهم، تتصدر المرأة المسؤولية فيه، ولعل أكثر المشدودين للمشهد هم من تراجعت بلدانهم، من حوار التعايش إلى حوار الدم. لستُ معنياً بالمبغضين لهذا الحوار، لسبب ديني أو فكر مظلم، إنما تعنينا هذه الملايين من البشر، من صناع وزراع مِن المقيمين ومن السائحين، كل يدرك حدوده عبر تجاور حضاري مشرع بقانون.
إذا رفعنا أوزار السياسة عبر العقائد والتحزب الديني والمذهبي، وانفردنا بالثقافة والفكر، مثلما كانت وسائل وغايات المنتدى الإعلامي ( يومي 1و2 مايو 2017) عدنا إلى الماضي الحضاري، لكن أي ماضٍ، الماضي الذي لخصه ثالث ملوك المناذرة عمرو بن امرئ القيس (328-363 ميلادية) قائلاً: «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرَّأيُ مختلفُ » (الجاحظ، البيان والتبيين).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة “الاتحاد” الإماراتية