من قطرة الضبع…
فرج عبدالسلام
ماذا يقال من رثاءٍ في رحيل الرائعين، الذين لم يتردّدوا يوما في الصّدح بالحق، ورفع راياتِ التمرد بالرغم من كلّ الظلم والظلام المخيّم الذي أصبح سِمةً، قبِل بها أغلبنا وصارت جزءا من حياتنا…
هناك أشخاصٌ بعينهم في هذا العالم ينبغي ألا يمرّ رحيلهم هكذا دون تدبّر، وإذا نحّينا جانبا الطغاة والمستبدين والمجانين الذين اكتوت شعوبهم، واكتوى العالم بنار طغيانهم، وحتى جنونهم. يتبقى لدينا آخرون، تحلّوا بالشجاعة، ولم يرتضوا الضيم، كما لم يرتضوا العيش على هامش الحياة، وجنّدوا أنفسهم مدافعين عن مصلحة مواطنيهم، يصدحون بالقول الحق، ولا يخشون في ذلك لومة لائم، أو يخشون ما قد يلحَقُ بهم من أذى السلطان الجائر أو زبانيته. أمثال هؤلاء، بالرغم من ندرتهم، يتركون أثرا مهمّا في شعوبهم ومجتمعاتهم، حتى وإن قابلَتهم هذه الشعوب بالجحود والنكران، عن جهل أو عن سوء نية.
الأمثلة لا تحصى عن قوافل الأبطال الذين قدمهم الليبيون قرابين على مذبح الحرية، في سبيل التخلص من النظام الاستبدادي الذي قفز إلى السلطة فخرّب البلاد وأفسد نفوس العباد. وعلى سبيل المثل، يذكر الليبيون بلا شك ذلك الرائع الشجاع “فتحي الجهمي” الذي لم يتوان عن الجهر بما يعتمل في صدور كثيرين من بني شعبه ممن اكتووا بنار الظلم والطغيان، فدفع حياته ثمنا لشجاعته نيابة عن بني وطنه، مسَلّما راية التمرد والنضال في سبيل الحرية إلى آخرين، وإن كانوا قلة، لإكمال مسيرة الحق نحو مجتمع أفضل..
هل هذه المقدمة ضرورية لتقديم أحد هؤلاء الشجعان الرائعين؟ أقول نعم، لأننا للأسف جُبلنا على نسيان أو تناسي من كان لهم أثرٌ عظيم في خلخلة بنيان نظام الاستبداد والليل الحالك الطويل، وتهيئة سُبل انهياره، حتى وإن تبيّنَ أن النتيجة لا تسرّ حتى الآن (فمن منّا ما يزال يذكرُ الكيخيا، أو ضيف الغزال، أو الشويهدي، أو حمَي، أو الدغيس، والقائمة تطول…؟) وبدون أن نبخس آخرين حقهم من الاعتراف بفضلهم، وبعضهم قدّم حياته قربانا على محراب الحرية في تلك المسيرة الطويلة والمضنية، إلا أن صاحبنا هنا له مزيةٌ يكاد ينفردُ بها، وهي ممارسة النضال السلمي من داخل “قطرة الضبع” كما يُقال.. وهو الرجل الشجاع، والفتى الرائع، والمناضل الذي لم يلن، عبد الرازق المنصوري، الذي قد لا يعرفه كثيرون ممن دافع عن حقهم في الحرية والحياة الكريمة.
ببساطة شديدة، عارض عبد الرازق المنصوري بشرف، وبشجاعة استثنائية، ورحل بهدوء. قارع نظام الظلم والاستبداد دون هوادة. لكن المثير في مسيرته، أنه كان يعارض دون تردّد من داخل جماهيرية القذافي “مع وافر التقدير والامتنان لمعارضي الخارج” وبالتالي عرّض الرجلُ نفسَه وذويه لأذىً حقيقي، ويعرفُ الليبيون جيّدا مصير كل من اقترب من حقل ألغام السلطة الجائرة، فلم يتوان زبانية النظام، وزوّار كل الأوقات عن ملاحقته، وتلفيق التهم له، ولم يكن يغادر السجن إلا ليعود إليه.. لكن ماذا كان يقول الراحل الرائع عبد الرازق، ليجعل منه شخصا استثنائيا؟
كان عبد الرازق يتجاوز بمراحل وبشجاعة نادرة من عداه من المعارضين، محطما تلك الهوامش القليلة التي اضطُر النظام إلى السماح بها تحت مقاومة الناس المعلنة منها، والصامتة على مدى أربعة عقود، وفي حين كنا نتطرقُ في كتاباتنا إلى مساوئ النظام باستحياء شديد، ونحرصُ على عدم تجاوز هامش النقد كثيرا خوفا من بطش السلطة، كان عبد الرازق يغرّدُ منفردا، ويجاهر بالنقد الشديد لأفعال السلطة البائسة، منبها بني وطنه (الذين لا يقرؤون…) عن مساوئ النظام الذي دمّر البلاد. وكانت مقالاته غاية في الوضوح الذي لا يحتمل التأويل.. مثل مقاله الشهير بعنوان “هل يجب على الليبي دائما أن يحب الثورة بخناينها؟”
في ختام هذه السيرة النضالية العطرة، نذكّر أن عبد الرازق المنصوري، انضم طوعا بعد ثورة فبراير إلى طيف قليل من النبلاء الذين عارضوا المستبد في أوج قوته، دون خوف، ورفضوا أن يشاركوا الانتهازيين واللصوص المتصارعين على تركة القذافي المسمومة، وفضّل البقاء جانبا ثم الرحيل في صمت، فوداعا لآخر الراحلين العفيفين. ولترقد روح عبد الرازق المنصوري بسلام..