من تفجيرات “القبة” إلى “السلماني” ، “المجرم واحد”
سالم العوكلي
بالمقارنة بين تفجيرات مدينة القبة في 20 فبراير 2015 ، وتفجيرات منطقة السلماني ببنغازي في 22 يناير 2018 ، نكتشف التكتيك نفسه والطريقة الوحشية نفسها التي تجمع الناس الأبرياء بتفجير أول لتحصد بالتفجير الثاني أكبر ضحايا ممكنة ، وباعتبار أن تنظيم داعش هو من اعترف يمسؤوليته على تفجيرات القبة فإن كل هذه المجموعات مهما اختلفت مسمياتها تمثل داعش فكرا وأسلوبا وتكتيكا.
هي التنظيمات المتوحشة بكل مسمياتها؛ التي كانت تدعمها جهات رسمية محلية وقوى إقليمية معروفة ، وتسميها بمجالس ثوار ليبيا، وكل مقاومة لإرهابها كانوا يسمونها ثورة مضادة أو انقلابا.
العالم برمته وقع في هذه الخديعة أو تواطأ معها، بل اعتبر الداعمين للإرهاب طرفا في المعادلة السياسية الليبية ، فجلس معهم بعض مندوبي المجتمع الدولي، وجلس معهم سفراء وسفيرات الدول الكبرى .
كانوا يقدمون الدعم لهذه التنظيمات ذات التفجيرين، وما الدعم إلا حقائب ملغمة، وألغام ، ومعدات تفجير مثل التي كانت تحملها السفينة “أندروميدا” القادمة من تركيا إلى ميناء مصراتة التي تسيطر عليه الميليشيات والتي بحجز السلطات اليونانية لها ومصادرة محتوياتها من المتفجرات أنقذت الكثير من الأرواح الليبية التي كانت معلقة بها.
سيقول البعض/ أو قالوا فعلا، أن الإرهاب لا دين له، لكني أقول أن للإرهاب دين وهو “الدين” حين يُسيّس ويصبح أداة للصراع على السلطة والنفوذ، وأداة للوصاية على الناس ومراقبتهم وإلقاء الحكم المسبق عليهم . هذه التفجيرات العشوائية التي تسعى لجمع الناس ثم قتلهم، تؤمن أن الجميع كافر ومرتد، وأن لا حكم شرعي إلا حكمهم، وأنهم مصرون على شعارهم الذي يقول “جئناكم بالذبح” ولا يستثني أحداً.
لقد خاض رجال الجيش الليبي، وداعموهم من المدنيين المخلصين، حربهم المقدسة على هذا الإرهاب، رغم الحظر على تسليح الجيش، ورغم تواطؤ الدول الكبرى مع هذه الجماعات، إلا أن الجيش نقلهم من معركة جبانة كانوا يحتمون فيها بالمدنيين إلى معركة أكثر جبنا يستهدفون بها الأبرياء الخارجين من المساجد.
لم تتوقف حرب هؤلاء الجماعات الذين وضعوهم يوما تحت اسم “دروع ليبيا” تحت أمرة وزارة الدفاع التابعة للحكومة التابعة لما يسمى بالمؤتمر الوطني، وإمرة إرهابيين عائدين من أفغانستان ، لم تتوقف حربهم على كل النخب الليبية، من عسكريين وقضاة ومحامين ومثقفين وإعلاميين وناشطين مدنيين ، فاغتالوا الآلاف منهم لتخلو لهم الساحة من الأكفاء ومن الوطنيين، وليحكموا بالسلاح والأفكار الهدامة من تبقي من الشعب المغلوب على أمره.
كانت هذه الجماعات كعادتها تحشد خلاياها المستيقظة والنائمة وتتربص بكل نبض وطني، وتملأ المخازن بالمتفجرات والألغام منتظرة الأوامر من مموليها ومن المدافعين عنها في المحافل الدولية، وكان منذ البداية عقلها المدبر وذراعها السياسية هما جماعة الأخوان ممثلة بحزب العدالة والبناء والجماعة المقاتلة ممثلة بحزب الوطن، هؤلاء الذين يلعبون لعبة السياسة من باب التقية وعلى طريقتهم، وهؤلاء الذين يفرغون الساحة من كل مخالف لهم أو مهدد لمشروعهم بالتمكين . كان العقد بينهم جميعا قائم، لأنهم في هذه المرحلة في مركب واحد مهما اختلفت عقائدهم ومصالحهم التي لا يجمعها سوى كونهم مؤقتا في خندق واحد ضد فكرة الوطن وضد كل من يدافع عنها.
تتعدد الانفجارات والمجرم واحد مهما تهددت التسميات، لأن الوصاية على الناس في إيمانهم ووجدانهم الديني هي البداية للصدام معهم، خصوصا وأن الإنسان المتدين تستفزه الوصاية فيما يخص علاقته بربه التي لا تحتاج وسيطا. وكل هذه الحركات المتوحشة بدأت تحت أقنعة الدعوة والهداية، ثم ما لبثت أن تبنت الإكراه سبيلها الذي جعلها تختار العنف فيما بعد أسلوبها في العمل. وهذا الشعور المتعالي تجاه الناس يتورم مع الزمن حتى يصنع وحوشا تعتقد أنها الفئة الناجية الوحيدة وما غيرها يستحق القتل.
لقد قام الجيش الليبي الوطني والأجهزة الأمنية بدورهم التاريخي ضد مشروع أفغنة ليبيا، ورغم كل الظروف الصعبة دفعوا الغالي والرخيص من أجل إنقاذ ليبيا من سيناريو كانت ستكون فيه مدنها وقراها ومساجدها ساحة يومية لمثل هذه التفجيرات العشوائية، طالما كان في عرفهم قتل كل مواطن تقربا إلى الله في ما يعلنونه وتقربا للسلطة في ما يضمرونه. ولكن الأمر يحتاج إلى الكثير مما يجب أن يقوم به المجتمع كاملا؛ من منظمات مدنية وعاملين في حقل التربية والتعليم ومشتغلين في حقل الثقافة والفن، وغيرها من الأنشطة التنويرية، من أجل تعبئة المكان بكل ما هو ضد هذا القبح وضد الكراهية.
لابد للفكر التنويري أن يقوم بدوره ، ولكل الأنشطة الفنية والجمالية أن تملأ الساحة، لأن مصادرة كل نشاط ثقافي أو جمالي أو مصادرة وحرق كتب معرفية، يشرع مناخا لنمو تلك الخلايا النائمة التي هي للجمال بالمرصاد لأنه تعرف أنه ضدها. فهذه الظاهرة تشبه الوباء الفتاك، وإذا ما كان عمل الجيش والأجهزة الأمنية علاجا، فإن دور المجتمع والأسرة والثقافة ومؤسسات التربية يعتبر وقاية ، ومنذ الصغر ونحن نحفظ عبارة “الوقاية خير من العلاج” عن ظهر قلب ، وهي من العبارات التي تستمر صلاحيتها قائمة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.
وفوق ذلك؛ تحتاج الوقاية من هذا الوباء إلى مجتمع واعٍ يعرف أن تسييس الدين كان على مر التاريخ مسرحا للمجازر ولحروب الأخوة، ولنمو ظواهر التكفير والإكراه والإرهاب.
من جانب آخر لابد أن نحرص على أن لا تجعلنا مثل هذه الأعمال الإجرامية الجبانة نتخلى عن قيمنا وأخلاق الفرسان فينا، وأن لا ندعها تؤثر في مسار بناء دولة الدستور والقانون الحديثة التي نطمح إليها، لأن الإرهاب زائل ومهزوم سلفا ولن ينتصر إلا إذا استطاع أن يبعدنا عن أهدافنا التي ثرنا من أجلها، وقيمنا التي تربينا عليها. في هذه الحالة سينتصر حتى ولو قُضي عليه بالكامل.
وعبارة “هم ليسوا قدوة لنا” إحدى المأثورات التاريخية التي أنتجها تاريخنا في مقاومة الفاشيات بكل أنواعها؟
بقدر ما تزيد الضحايا بقدر ما يزيد ثمن وقيمة الأهداف التي ثرنا من أجلها، وحين نهتف في مواكب التشييع “دم الشهداء ما يمشيش هباء” فإننا لا نعني الانتقام لهم فقط، ولكن نعني بناء ليبيا التي حلموا بها،وتحقيق المطالب التي ضحوا من أجلها حتى لا يضيع هذا الدم المقدس هباءً.