من القرية إلى المدينة.. ” الجزء الخامس”
السلام عليكم وجلس الرجل، كلهم ينظرون إليه وآذانهم صاغية له .. تبسم وقال أنا محمد من فزان، أعمل في هذا المكان منذ قرابة 5 شهور، هناك كثير من العمال من فزان والشرق والغرب. ما هي مهنتكم أم أنتم عمال عاديين؟ رد صالح نحن لا عمال عادين ولا ندري ماذا سوف نعمل. تابع، الرجل العمل هنا شاق كل الأعمال بآليات الحفر ومع المهندسين وأنتم صغار في السن، لكن إن شاء الله خير !! أود أن أبلغكم بأن عليكم الالتزام بكل التعليمات في المخيم وأنا سوف أساعدكم في أي شيء تحتاجون إليه. نلتقي في الليل (عمال فزان)، وسوف تكونوا معنا من اليوم إن شاء الله ..
خرج الرجل من الخيمة، قال صالح ، يبدو أنه رجل طيب وسوف نتواصل معه دائماً .. تمدد الجميع على الأسرّة من جديد وسرعان ما أخذهم النوم من شدةِ الإرهاق . استيقظوا على صوتِ جرسِ موعدِ العشاء، أدركوا أن وقتَ صلاةِ المغرب قد فاتهم نتيجة التعب والنوم العميق. في المطعم وهم يتناولون وجبة العشاء تذكروا طعامهم في القرية ( خبز التريد )، وهم اليوم أمام وجبة من شوربة وسلاطة ولحم دجاج مع الخضروات وعصير البرتقال. بعد تناول العشاء خرج الجميع من المطعم واتجهوا إلى خيامهم، دخل صالح ورفاقه ، جلسوا يتسامرون وصالح يحدثهم عن وجبة العشاء في بيتهم في القرية، كانت قليلة وبدون لحم، إذ كان اللحم نادرًا، إما في العيد أو المناسبات الاجتماعية (أعراس أو ختان)، واليوم صالح تناول اللحم مرتين؛ في وجبة الغداء والعشاء مع الفاكهه .. قال سعد: الدنيا بدأت تضحك لنا .. بحبحة، الغداء لحم دجاج والعشاء لحم بقر!
دخل الرجل الذي تحدث إليهم ووقف صالح ورفاقه احترامًا له. سألهم عن حالهم، جميعًا ردوا أنهم بخير .. هيا نمشي إلى خيمة عمكم (خليفة)، كل يوم نلتقي عنده، نحكي ونسمع (الراندو) ، التي تعني قديمًا في فزان الراديو. خرجوا جميعًا إلى تلك الخيمة حيث وجدوا مجموعةً من الرجال، ملامحهم من فزان، تعانقوا وتصافحوا وجلسوا يتسامرون ..
تعارفوا فيما بينهم من أي قرى ومناطق فزان، تبادلوا الحديث عن أحوال الناس، بعد ذلك فتح مسعود وهو من الذين يقيمون في الخيمة الراديو لسماع الأخبار. كانت عن مصر والثورة والحرب على إسرائيل ثم بعض الأغاني.
تذكر صالح دكان القرية عندما كان بعض السكان يجتمعون حوله، يجلسون على شكل دائرةٍ أمامه لسماعِ الراديو الذي يملكه صاحب المحل، وكيف كانت الأصوات تتصاعد عندما يستعمون إلى خطابِ جمال عبد الناصر. ساد الصمت في الخيمةِ من أجل الاستماعِ إلى نشرةِ الأخبار والجميع يسمع ويهز رأسه.
علّق مسعود الراديو في مكان مرتفعٍ في الخيمة، وقام بخفض الصوت .. دار الحديث بينهم عن العمل والتعب، وتحدثوا عمن له عام أو ستة أشهر لم يزر فزان من أجل العمل. وقالوا لهم: عليكم الانتباه في العمل واتباع التعليمات، إن احتجتم إلى أي شيء سوف نكون عونًا لكم، نرشدكم إلى الخير والصلاح، عليكم أن تفكروا في عملكم فقط ..
غادر الجميع إلى خيماهم، خلد صالح ورفاقه إلى النوم يفكرون في صباح الغد .. ما هو العمل ؟! والأجر !! قال سعد والنعاس يغالبه، ناموا الصبح يصبح وربنا يفتح، كيف كنا وكيف أصبحنا .. اليوم أكلنا اللحم مرتين وسابقًا نأكله مرات قليلة في العام الواحد، هيا تصبحون على خير .. ضحك الجميع، تصبح وتربح ..
عند الفجر سمعوا حركة داخل المخيم، استطلع سعد الوضع وقال هيا يا جماعة الناس نتحرك، نهض صالح والبقية إلى الاغتسال في دورات المياه الخارجية، صلوا الصبح وجلسوا يفكرون كيف سوف تكون البداية لأول يوم في العمل. دق جرس معلنًا بداية الإفطار، ترافقوا مع بقية العمال إلى صالة المطعم، كانت الدهشة كبيرة لأنهم لم يعتادوا مثل هذا الإفطار، مثل: حليب وشاي خبز وجبن وقطعة كيك، كانوا في قريتهم بعضهم لا يتناول وجبة الإفطار وبعضهم يتذوق بقايا العشاء من خبز التريد .. بعد الإفطار خرجوا، شاهدوا شاحنة كبيرة وبعض السيارات الصحراوية يركبها العمال متجهين إلى العمل في مواقع الشركة.
عاد صالح ورفاقة إلى الخيمة، انتظروا بعض الوقت ثم خرجوا إلى مكتب المخيم حسب الموعد، وجدوا الرجل خلف المكتب ومعه مهندس يبدو أجنبيًا ومعه موظف ليبي .. الجميع نظر إليهم، بدأ الكلام المهندس الأجنبي مع الموظف، صالح ورفاقه لا يفهمون ماذا يقول .. الليبيان طلبا من صالح ورفاقه الانتظار قليلاً في الخارج.
الحديث بين المهندس الأجنبي والموظفين كان على صالح ورفاقه، إنهم صغار في السن وعن العمل، ربما ثلاثة منهم يستطيعون العمل مع المهندسين، أما الرابع فهو شاب صغير وعليكم بالعودة به إلى طرابلسَ، كان المهندس يعني صالح !! أشار بأن الثلاثة لا يستطيعون العمل مع الحفارات، لكن ممكن مع المهندسين في عمل آخر، آما الرابع ( صالح) فهو صغير وبنيته الجسدية ضعيفة .. اوكي ..
قام المهندس بتوقيع الأوراق واعتماد الثلاثة في العمل، أما صالح لم ينل حظًا في الموافقة. شعر الموظف بالإحراج ، أشفق على صالح، إنه من مكان بعيد ولولا العوز والحاجة لما أتى إلى هذا المكان. خرج المهندس الأجنبي من المكتب مبتسمًا في وجهِ الرفاق الأربعة، صالح لا يعلم أنه غير مرغوب فيه في العمل نظرًا لصغر سنه وضعف بنيته الجسدي.