من الجِلْد نفسِه يُصنع السوط والوتر
سالم العوكلي
نشر نجيب الحصادي إدراجاً على صفحته بتاريخ 18 ديسمبر 2017 يقول فيه “موقف الفنان الذي يُكره على إنتاج أعمال فنية استجابة لممليات السلطان لا يختلف من حيث المبدأ عن موقف أي مواطن يطلب منه الامتثال لأوامر حاكم جائر. ذلك لأن هذا المأزق لا يواجه الفنان بوصفه فنانا، بل بوصفه مواطنا، وإذا حدث أن امتثل الفنان لمطالب السلطان، فإن هذا قد يدينه مواطنا ولا يدينه فنانا، لأن قيمة ما ينتج من أعمال فنية أجدر أن يُقوّم وفق معايير جمالية خالصة. بتعبير موجز، العثرات السياسية لا تستتبع بالضرورة عثرات فينة، كما أن مشاركة الفنان في النضال السياسي لا تضمن رقي أعماله الفنية، ولعل الليبيين أدركوا كل هذا حين تغاضوا عن موقف محمد حسن السياسي، فلم يذكروا له سوى فنه الأصيل، أو لعلهم التمسوا له العذر بعد أن أدركوا أنه ما كان له أن يثري المشهد الفني الليبي على النحو الذي فعل لولا أنه قدم تنازلات سياسية. أو لعل حسهم الفني أسر ألبابهم، أو لعل قيمة التسامح وجدت إلى ضمائرهم سبيلا، وفي جميع الأحوال لا مراء في أنهم أخذوا موقفا جديرا بالإشادة”.
يحرص نجيب حتى في إدراجاته على صفحته أن يتوخي الدقة ما أمكنه في صياغة فكرته، محاولا، ما وسعه ذلك، النأي بها عن أي التباس ممكن، لكنه يدرك، بطبيعة اختصاصه في المنطق والفلسفة، أن هذا الأمر بعيد المنال، وفق ما تتيحه لنا اللغة كأداة توصيل من فضاءات دلالة قابلة لعديد المعاني، والتأويلات، وحتى سوء الفهم كقدر يصاحب اللغة.
لكن المسألة التي يطرحها هنا تتعلق بمداخل لفلسفة الأخلاق، وبقيم ثابتة أو متغيرة، تتعلق بطبيعة رسالة الفن كنشاط جمالي، وبمقتضيات الضعف البشري وضرورات المصلحة، أو بالحكم على مرحلة حين تنزع من سياقها التاريخي، وبقيمة التسامح.
ثمة اصطلاح لاحق أخلاقية الفنون كثيرا وهو (الالتزام) أو (الفن الملتزم)، والمقصود به عموما، الفن الذي يحمل رسالة سامية وفق منطلقات الفنان الأخلاقية ومسؤوليته تجاه مجتمعه، غير أن هذا المفهوم تغير لتحولات كثيرة، فمع بزوغ عصر الأيديولوجيات أو السرديات السياسية الكبرى أصبح الالتزام يعني الالتزام بهذه الأيديولوجيا، ويحدث أحيانا أن يختلط الزعماء مع الأيديولوجيا ويصبح الالتزام هو التغني بالزعماء كممثلين لها.
حدث هذا لفلاسفة وشعراء وناثرين كبار، التحموا في لحظة وجد مع زعماء مثلوا لهم في تلك اللحظة الطريق إلى أحلامهم أو أوهامهم، وأغمضوا أعينهم عن ما يصاحب هذه الخلطة من جرائم واستبداد، كما حصل لمايكوفسكي مع ستالين، أو عزراباوند مع موسيليني، أو الفيلسوف مارتن هيدجر مع النازية، والقائمة تطول للدرجة التي يعدد فيها الروائي ميلان كونديرا عشرات الأسماء الأوربية المهمة من كل صنوف الفكر والفن، في كتابه (الستارة)، الذين تم عزلهم ثقافيا بعد هزيمة النازية أو بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. يعيد كونديرا ــ الذي حرمته هذه الشبهات من جائزة نوبل ــ هذه العلاقة الغريبة، لمصطلحه الأثير (الغنائية) التي تجمع الفنان مع الثوري في حلم أو وهم واحد، فكلاهما لديه حلم وكلاهما مولع باليوتوبيا، وتحدث المقايضة، الحاكم يحتاج إلى فنان شهير ومحبوب كي يروج له، والفنان يحتاج إلى حاكم على الأرض قادر على تحقيق حلمه.
هذا يتم في إطار مثقفين لهم مشروع فكري يرغبون في تبلوره سياسيا، ولذلك ينطبق عليه توصيف (الموقف السياسي للفنان).
في هذا الحالة، وحين نتطرق للفنان محمد حسن، فالأمر مختلف، لأننا نعرف أن منطلقه ليس سياسيا (فهو لم يُبدِ يوما رأيا سياسيا، ولكن مصلحي، وربما يأتي وفق ما عبر عنه نجيب كونه صاحب مشروع ولا يمكن أن ينجز مشروعه إلا بهذه التنازلات، أو ما يسمى عادة الضريبة أو الدمغة التي لا أحد يدفعها مسرورا، ولكنها ضرورية لإنجاز العمل أو المشروع، وحالة التهرب من الضرائب لدى رجال الأعمال تشبه حالة التهربَ عند بعض الكُتاب من ذكر اسم الزعيم في كتاباتهم أو الإشارة إليه مباشرة (الصادق النيهوم مثالا). محمد حسن كائن موسيقي، عاشق للغناء، وموهوب، لكنه لم يكن مثقفا ولا موقفا سياسي أو أيدلوجي محددا له. لكنه يعرف أن مشروعه لا بد أن يمر بالقصر (أو مقر السلطة) كي يتقدم، وهذا ما فعله عبقري موسيقي مثل مودزارت لبعض مؤلفاته الموسيقية التي ألفت كي تُعزف في قصر (السلطان) وأنا هنا اتذكر اسم ومقطوعة موزارت جيدا لكني لا اتذكر اسم صاحب القصر، وهذا هو مصدر تبجح الفن الأصيل الذي حاول نجيب توضيحه في منشوره، وقد توسع في تناول هذا الموضوع في مقالته (الفنان والسلطان) بما يعمق هذا الجدل التاريخي.
فيما يخص موقف الليبيين حيال محمد حسن أو أي كاتب أو فيلسوف أو شاعر أو مسرحي قدم التنازلات، فهم لا يتفقون في التقييم ولا في الرأي، وحين نتحدث عن محمد حسن كأكثر هؤلاء شهرة، فإنهم كانوا ينقسمون حياله فترة النظام السابق وبعد سقوطه، فالبعض يغفر له الضريبة ليستمتع بفنه الأصيل، ولا أحد ينكر أنه كانت له شعبية في ليبيا، والبعض لا يفصل بين الفنان وعلاقته بالسلطة، وبالنسبة له الفن رسالة وموهبة إذا استخدمت في الترويج للقبح فإن جميلها لن يغفر قبيحها، في الوقت نفسه قطاع ليس هينا من الليبيين ارتبطوا بالنظام لأسباب مختلفة، غير أني لا أوافق نجيب مقارنته موقف الفنان بموقف المواطن العادي حين يجبر كلاهما على الامتثال لأوامر الحاكم، فالتأثير مختلف، كما أن توظيف الجمال في الترويج لطاغية مختلف، واستغلال حب الناس والشهرة من قبل الفنان لتضليلهم غير أخلاقي ويشبه المفخخات التي تصنع على شكل لعب أطفال أو علب شوكولات. من جانب أخر، في لحظة الحساب، صاحب الشهرة هو ما يدفع الثمن في النهاية، فقد تجد كاتب تقارير متخفي لا يعرفه أحد أضر بكثير من الأبرياء، وأوصل بعضهم إلى السجن أو المشنقة، تجده يزايد مستغلا كونه نكرة ويهاجم أصحاب الشهرة المتورطين مع السلطة رغم أنهم لم يلحقوا ضررا مباشرا وجسديا كما فعل هؤلاء المتخفون، وإن قد يسبب التغني بالحاكم المستبد أضرارا نفسية أو معنوية. فسجناء الرأي مثلا حين كانوا في زنازينهم يعذبون يوميا لم يعجبهم محمد حسن، بل بالأحرى كان يعذبهم محمد حسن وهو يغني (عظيم الشان) أو (ما هبت نسمة على بلادي إلا بقدومه) بينما كانت الأناشيد المقدسة لمن يتسعكون في عواصم العالم وفنادقه الفخمة من الموالين للسلطة. أمهات ضحايا نظام القذافي الثكالى والزوجات الأرامل واليتامي بالتأكيد كان يعذبهم هذا التقديس والتغني بالزعيم المسؤول عن كل هذه الضحايا. ومن جانب آخر ثمة كثيرون لا يحبون أغاني محمد حسن من باب كونها مشروعا لبدونة الأغنية الليبية في سياق بدونة كل شيء في ليبيا.
ما لفت نظري لإدراج نجيب الحصادي؛ الذي مضى عليه سنوات، بعض التعليقات التي كُتبت عنه بعد أن نُزع من سياقه ونُشر في صفحة أخرى، ولن أذكر التعليقات أو أسماء أصحابها لأني اتخذت عهدا على نفسي أن لا تدخل السفاهة أو السفهاء مقالتي. لكنهم يعكسون ظاهرة متفشية، وهو سوء القراءة والخروج عن أدب الحوار، وبالمختصر كان نجيب، عاشق الموسيقى والمتسامح، يدافع في منشوره عن محمد حسن الفنان (الذي مازالت تصدح موسيقاه بعد أن ذهب الطاغية إلى مكب نفايات التاريخ) بينما هم كانوا يدافعون عن السلطان المستبد الذي أمر بحرق الآلات الموسيقية، وأمر بشنق المغني الجميل عمر المخزومي بتهمة ملفقة العام 1977، واستخدامهم للكلمات النابية يدل على أنهم من حاشية القذافي الذي تمتلئ خطاباته بمثل هذه الكلمات النابية والشتائم، وهذا التماهي المَسْخي يعكس نوعا من العلاقة المرَضية التي لا مجال هنا لتشخيصها.
وتظل دائما الخيارات مفتوحة فيما يخص المواقف الأخلاقية، ففنان مثل محمد نجم رفض أن يغني للانقلاب أو أي مناسبة تتبعه، فمُنعت أغانيه السابقة، ومُنع هو من دخول الإذاعة، وخسر مشروعه الموسيقي لكنه كسب موقفه الفني والإنساني، وبالتالي رضاه عن نفسه وسعادته، وحين دعوناه، العام 2009 بعد 32 سنة من إيقافه عن الغناء ليقدم أغنية (ليبيا يا نغما في خاطري) على خشبة المسرح الوطني بدرنة، ضمن مهرجان الأسطى للفكر والفنون الذي تقيمه جمعية بيت درنة الثقافي، بمجرد أن أنهى هذه الأغنية، وقف له كل الحاضرين والحاضرات في المسرح الممتلئ وصفقوا له فترة طويلة، فانهمرت دموعه، وكان هذا الموقف عزاء له ولكل ما خسرناه من توقف فنان بقيمة محمد نجم، بينما فنان مثل سلام قدري؛ الذي رفض أن يغني تحت الخيمة، استمر في غنائه الهامس والهادئ بعيدا عن السلطة وضجيجها، مكتفيا بعيشه على الكفاف من محل لبيع الآلات الموسيقية، وكان نموذجا للأغنية المدينية التي تواجه ظاهرة البدونة في ذلك الوقت كسياسة عامة. من جانب آخر أجاد بعض الفنانين مراوغة هذه الضغوط بشكل ذكي، فحين طُلِب من الشاعر عبد السلام الحر أن (يصنع) قصيدة تشجع الشبان على التجنيد (الإجباري) وهو يدرك أن التعليمات آتية من أعلى سلطة، تعامل بفنه مع الجانب الوطني لهذه الخدمة وحماية الوطن كغاية، ولم يتطرق للزعيم خلالها: (اسرع لا تبطي عالتجنيد .. الوطن يريد … حماية برجال صناديد)، وفي ثناياها سرّب حكمته الذكية التي تدعو للتعامل مع التدريب العسكري كنوع من العلم الضروري بغض النظر عن المرحلة السياسية، فقال “تعلم را ما حال يدوم .. العلم يفيد ..على حالك تلقاه رصيد).
في مهرجان الشعر العالمي الذي شاركتُ به العام 2007 في نواكشوط، حضر الشاعر العراقي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، وبسبب حضوره متأخرا يومين، أتيح له أن يلقي بعض قصائده في الفترة الصباحية المخصصة للندوات، فألقى قصيدة يهجو فيها الشعر الحديث (القصيدة النثرية)، وقصيدة أخرى يمدح فيها صدام حسين. صفق له حشد من البعثيين الموريتانيين من الحاضرين، وحين دُعيت لمناقشة أحد محاور الندوة، أحببت أن أعلق على الشاعر الذي هجا الشعر ومدح الطاغية: فقلت سأوافق الشاعر الكبير عبد الرزاق عن كل التهم التي وجهها بشكل جميل إلى القصيدة النثرية، من التفاهة إلى عمالتها للمخابرات الأجنبية، ولكن سأحتفظ بفضيلة للقصيدة النثرية كونها لم تمدح أي طاغية، أو بالأحرى طبيعة بنيتها لا تصلح للمديح من الأساس، ولذلك لن أقيّم شعر المديح من الناحية الفنية ولكن من جانبه الأخلاقي، فأي شاعر يمدح طاغية يسيء إلى أعداد هائلة من ضحاياه، ومن الثكالي واليتامى، قبل أن يسيء للفن، وسأتطرف في حكمي الأخلاقي وأقول إن أي رجل يمدح رجلا آخر بهذا الشكل السافر (ومهما كان هذا الرجل الآخر) اعتبره نوعا من الدعارة التي تتقنع بالقوافي. وخرج الشاعر محتجا من القاعة فخرجتْ خلفه كتيبة البعثيين.
كان، وقتها، هذا رأيي الذي لا يخلو من انفعال ناتج عن هجاء القصيدة النثرية، لكن، الآن، وبعد سنوات طويلة تغيرتْ فيها الكثير من أفكاري ونضُجتُ، مازال هو رأيي نفسه.