ملحمة Dune بين الأدب والسينما
هناك الكثير من الأعمال على مدار التاريخ السينمائي، تم اقتباسها من أصول أدبية. والسينما العربية تحديدًا مليئة بالأعمال المأخوذة عن أعمال عربية رصينة؛ والأدب المصري تحديدًا صاحب الفضل في ذلك، بأعمال مثل أعمال نجيب محفوظ وغيره. لكن من الناحية الأخرى، كانت السينما الأمريكية تصنع المعجزات ببدء العمل على الروايات الفانتازية والخيال العلمي، بدلًا من التركيز فقط على الحبكات الواقعية والاجتماعية.
في 1965، أصدر الكاتب فرانك هربرت، رواية محطمة لكل القواعد، ومُرسية لأخرى جديدة في عالم أدب الخيال العلمي. صدرت الرواية تحت اسم Dune، ولاحقًا تُرجمت إلى لغات عديدة؛ منها العربية، وكانت معها تحت اسم (كثيب). ونظرًا لشهرتها العالمية، تم تحويلها إلى فيلم سينمائي على يد المخرج دايفيد لينش في 1984، وحمل نفس الاسم. لكن مؤخرًا انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي بالعرض التشويقي المنتظر لإعادة الإنتاج السينمائي الثانية للرواية الأدبية، وهذه المرة الفيلم سيصدر على يد المخرج دينيس فيلنوف الذي اكتسب شهرة واسعة النطاق في مجال (تصحيح أعمال الخيال العلمي)، كما يُزعَم. حيث كان أقوى أفلامه هو Blade Runner 2049، وهو إعادة إنتاج لفيلم قديم شهير للغاية.
يبدو أن الترابط بين الأدب والسينما بالنسبة لملحمة Dune، لا يمكن اختزاله في بضعة أسطر. ولهذا حديث اليوم متمركز حول تفاصيل الرواية الأصلية، وكيفية تحويل الرواية إلى فيلم مأساوي على يد دايفيد لينش، وتوقعات حول معالجة دينيس فيلنوف للرواية بفيلمه المنتظر هذا العام.
الرواية
بالطبع عندما يأتي الحديث عن الأدب، فنحن دائمًا وأبدًا أمام العمل الأكبر والأضخم على الإطلاق. فإذا قمنا بمقارنة سلسلة رواية Harry Potter مع الأفلام مثلًا، سنجد أن الروايات تحوي بداخلها أحداثًا يمكن بها تقديم ثلاثة أضعاف الأجزاء السينمائية الموجودة. ونفس الأمر ينطبق على رواية Dune. حيث إن الرواية غنية بالتفاصيل والأماكن والأحداث التي احتاج الكاتب إلى سطور خلف سطور، فقط من أجل تقديم سرد وصفي يساعد على خلق بيئة خيال علمي مرضية للقارئ المحب لهذا التصنيف.
احتاج الكاتب إلى الخروج عن المألوف في صنعه للملابس، الأسلحة، تفاصيل الأرض، قواعد الفيزياء، آلية حركة الوحوش، إلخ. وكذلك كان من الضروري عليه تقديم تفسيرات منطقية لأحداث غير منطقية، وبهذا صنف البعض الرواية على أنها فانتازيا منطقية. الفانتازيا في الأساس خالية من المنطق، وكلها خيال مطلق؛ إلا أن فرانك هربرت استطاع إرضاء قارئ الخيال العلمي وقارئ الفانتازيا في نفس الوقت. ولم يرضه برواية واحدة فقط، بل بروايات متعاقبة، صدرت كأجزاء تكميلية، لتُخلق لدينا سلسلة كاملة تستحق لقب: ملحمة.
لكن ما السر القابع خلفها يا ترى؟
السر في القصة!
تبدأ القصة في المستقبل البعيد جدًا، مستقبل خرجت فيه البشرية عن نواميسها المعهودة، وضربت بالمستحيل عرض الحائط، وباتت قادرة على الإبحار في الفضاء بمنتهى الحرية. لكن التقدم التكنولوجي لا يزعزع سطوة الهرم الاجتماعي على حياة البشر للأسف، ما زال الأمر على حاله: الأغنياء في الأعلى، الفقراء في الأسفل، والطبقة المتوسطة تكاد تكون شبه معدومة. تلك الطبقية تجعل الأغنياء يريدون قوّة أكبر، والفقراء يزدادون حنقًا وحسرة على حالهم.
وبالفعل، تبدأ العائلات الكبيرة بالتصارع على ملكية كوكب صخري وصحراوي بعيد، على أمل يكون المستقبل أفضل عبر استغلال ثرواته. حيث إنه أفضل مكان لاستخراج العقار الذي يساعد البشر على السفر في الفضاء بسلاسة، فبالتالي العائلة التي ستفوز بالكوكب؛ ستكون هي المسيطرة على مقاليد أمور المجتمع في وقتٍ قصير. وتتصاعد الأحداث عندما تشرع قوى غريبة في التملك من ابن أحد الحكّام الكِبار، والآن ربما وقع على عاتقه إنقاذ البشرية من ذلك الصراع الخاسر، وتحقيق السلام.
لكن هل هناك مكان للسلام في ظل أجواء تشوبها الضغائن والمكائد؟ ربما للإجابة على هذا السؤال، عليكم قراءة الرواية.
فيلم دايفيد لينش
بالطبع كجميع أعمال لينش، نال الفيلم رضا شريحة كبيرة من المشاهدين، وكذلك النقّاد، لكن كانوا من محبيه فقط. نظرًا لكون المخرج أصوليًّا، فكان الفيلم مصبوغًا بالكادرات السينمائية الأصولية بشدة، وبالنسبة للكثيرين؛ الفيلم غارق في الأصولية فعلًا، مما جعل القصة مبهمة بدرجة كبيرة. والقصة الأساس تندرج أسفل تصنيف الخيال العلمي، وأفلام هذا التصنيف يجب أن تركز على الحبكة أكثر من أي شيء آخر. فمهما كان التنفيذ سيئًا، القصة الجيدة دائمًا تشفع لصاحبها.
لاحقًا تمت مهاجمة الفيلم بأكثر من طريقة، وطالته التقييمات السلبية بالتنكيل من كل حدبٍ وصوب. حتى أغلق دورته السينمائية بصالات العرض، بإجمالي أرباح 30.9 مليون دولار فقط، بينما الميزانية الأصلية كانت 40 مليون دولار؛ أي 9.1 مليون دولار خسارة. النقد أولًا اتجه للسيناريو الذي لم يكن مناسبًا لوزن الرواية في الأساس، ثم طال الإخراج، المونتاج، التمثيل، وحتى الموسيقى التصويرية. بعد ذلك اعترف المخرج أن الفيلم خرج بتلك الهيئة السيئة نظرًا للضغط الذي تعرض له من قِبل الإنتاج الذي أصر على إصدار الفيلم في ميعاد محدد؛ مما أعاق قدراته الإبداعية.
وبالفعل، بات الفيلم علامة سوداء في تاريخ لينش الذي تميز بالأعمال العبقرية والنظرة غير التقليدية للقصص الواقعية البسيطة. الفيلم لم يبنِ أي جسر تواصل بين الأدب والسينما على الإطلاق للأسف. والجدير بالذكر أن للمخرج أعمالا ممتازة مثل Blue Velvet، إلا أن لكل جواد كبوة بالطبع.
فيلم دينيس فيلنوف
بعد التجربة الكارثية التي قام بها لينش، مر أكثر من عقدين من الزمان، ولم يتم الالتفات إلى الرواية مجددًا بمنظور سينمائي. إلا في 2020، عندما هلّ علينا دينيس فيلنوف، وأعلن عن قيامه بتقديم فيلم مختلف تمامًا عن الذي قدمه لينش، وربما أخيرًا يُعطي الرواية الصدى السينمائي الذي تستحقه فعلًا. من المتوقع أن يضرب الفيلم شباك التذاكر الأمريكي في 18 ديسمبر القادم، بينما هناك بعض البلدان العربية التي سيصدر فيها بالتوازي مع الولايات المتحدة الأمريكية. والأمر كله مرهون بالسينمات التي تعمل حاليًّا، وقادرة على استضافة فيلم عملاق كهذا، خلال انتشار فيروس كورونا حاليًّا.
المميز في هذا الفيلم، هو أن المخرج لم يكن هو الأصلي له، بل كان بيتر بريج. حيث أعلنت شركة باراماونت للمرئيات في 2008 أنها تعمل على فيلم لرواية Dune الكلاسيكية. لكن سرعان ما ترك بيتر المشروع في أكتوبر 2009، ثم أتى بيريل موريل كمخرج في 2010. لكن مرة أخرى، تم ترك المشروع في 2011. لاحقًا استحوذت شركة ليجينداري للمرئيات على الحقوق السينمائية للرواية، وفي 2016 أبدى دينيس اهتمامه بالمشروع السينمائي. وأخيرًا في 2020 ظهر العرض التشويقي الأول للنور، معيدًا أمل الجمهور في سينما الخيال العلمي المقتبسة عن روايات؛ من جديد.
أبطال الفيلم مألوفون للغاية، وبعضهم شارك في أفلام الأبطال الخارقين. لذلك حتى طاقم العمل متوافق من حيث الخلفية الفنية؛ مع حبكة الخيال العلمي مقدمة هنا. واحتوى العرض التشويقي على الكثير من التفاصيل التي كانت مهملة تمامًا في فيلم لينش، وظهرت بطريقة واضحة للغاية؛ مثل دودة الأرض العملاقة.
نرجو أن يكون الفيلم جيدًا، ونريد فعلًا أن يكون موافقًا للتوقعات، وأن يعيد للرواية الكلاسيكية هيبتها من جديد.