معنى الهُويّة بين الكوني والمحروق (2)
فرج عبدالسلام
لعلّ تحدّر إبراهيم الكوني وسعيد سيفاو المحروق من إثنيّتيْن من الأقليات تتعرّضان للاضطهاد والإقصاء وصنوفِ المطاردة الثقافية والأمنية أيضا، هو ما جعل منهما صنوان ونقيضان في الوقت ذاته. وبالرغم من أنّ هذا الانتماء لفئتينِ مقموعتين يُفترضُ أن يقرّبهما من بعضهما أكثر، لكن المحروق اشتهر بتمرّده، وبأنه صاحب لسانٍ وقلم لاذع، يُجاهر بالفخار بعرقِه البربري، ويُصرّ على استخدام هذه التسمية التي صارت في العصر الحديث توصيفا مرادفا للوحشية، كما يُصر على أنّ البربرية عِرقٌ وانتماء بل وديانةٌ أيضا، بينما الأمازيغية هي امتدادٌ جغرافي يشمل شمال إفريقيا كله وأجزاءً من جنوب الصحراء، وكل هذه الأرض هي موطن اللغة البربرية وثقافتها وهي أرض واسعة الأفق مساحة ورحابة صدر وتسامحا مع جميع الثقافات الإنسانية كما يراها. ولذلك يصفُ نفسه دائما بالبربري المتمرد، وما ينفكّ يردد “كنت ولا أزال أواجَه بقمعِي بسببِ كوني بربريّاً” لكن أحداً لا يعرف أسانيده عندما لم يتحرّج من وصف الكوني بمخبر السلطة في رسالته الطويلة الشهيرة التي وجّهها للقذافي قبيل وفاته متأثرا بحادثِ دهسٍ حوّله إلى رُبع إنسان كما يصف نفسه، ولم يشكّ مطلقا أن الحادث من تدبير السلطة لاغتياله، وكان هذا أيضا رأي كثيرين من الوسط الثقافي المقرّب منه. إذنْ، وضعُ المحروق الصحيّ المترديّ وهو الذي قال عن نفسه في رسالته الشهيرة “إن جسدي نفسه ملآن ضجيجاً وألماً” وما يقترن بهذا الوضع من قنوطٍ واسترابة في كل المجتمع المحيط، بمن فيهم الأصدقاء، ربما هو ما دفعه إلى تلبيس الكوني صفةً قميئة وظالمة لم يتّهمه بها أحدٌ غيره، وربما كان ذلك ما دفع الكوني بدوره لأن يقسو عليه كثيرا في سيرته “عدوس السرى” محاولا تتفيه ونسف مفهوم سعيدٍ للهوية، فرأينا بوضوح تام أنّ مفهوم (البربري المحروق) للهوية يتعرضُ إلى انتقادٍ شديد من قبل (الطارقي الكوني) الذي يُعلن أنّ الإنسان مرآةُ رسالتِه، ويتساءلُ بحرقة ملحوظة في معرض حديثه عن المحروق: “تخيّلوا معي إنسانا رذيلاً يُبشّرُ برسالةٍ نبيلة! فهل يُؤمن الناس برسالته، أم سيكونُ بليّة لتلك الرسالة؟” كما يُطلق الكوني رأياً قاطعا آخر بأنّ المرء لا يُفلح في الترويج لما يُبشّر به، ما لم يُحقِّق التماهي بما يُبشّر به. وأيضا يأخذُ الكوني على المحروق، (وهذه في رأيي هي النقطة الأهم في هذا الخلاف) موقفَه من الهوية كعرقٍ، لا كبعدٍ ثقافيّ يتعيّن المحافظة عليه والإعلاءَ من شأنه. ثم يسترسلُ فيفسّر رؤيته بأن الهوية يجب أن تمثّلَ في الأساس قيمةً ثقافية لا شعاراً أيديولوجيا ميّتا كما يقول. وأحسبُ أنّ الكوني المبدع يصف الواقع تماما عندما يعيبُ على ما يسمّيه بـ “محفل الأغلبية” الذي يُورده مرّات عديدة في سيرته ويقصد به المجتمع العربيّ المحيط في الوطن الليبي، من جهلٍ بالقيمِ المبدئيّة للأقليات ولتراثها، وحرمانها من استخدام لسانها الذي يراه رديفا لوجودها نفسه.
أما القول الفصل في رؤية الكوني لصديقه المحروق فهو عندما يؤكد أنه “لا وجود لقيمةٍ حقيقية لأيّ أمّة (سيّما الأقلية) بعيدا عن ثقافة الأمّة المعبّرة عن روحها، وأنها لا تكون بدون أدبِ الأمّةِ بلحونِه وحِكمه وأشعارِه وأساطيرِه وأمثالٍه، وهو الأدبُ الذي لم يكتبه سعيد لا في مفهومه الأخلاقيّ، ولا في بعده الإبداعي.”
قد يرى البعض شيئا من القسوة في هذا الحكم القاطع، وأحسب أنه سيكون أكثر قسوة وحدّة لو كان المحروق ما يزالُ على قيد الحياة، لكن إن نظرنا إليه في بعده الروحي، وكرؤيةٍ لمبدعٍ ما انفكّ يُنافحُ عن دور الأقليّات العرقيّة في المجتمعات وضرورة أن تتبوّأ مكانتها دون تمييزٍ أو تحقير، فقد نتفهّمُ عندها رؤية الكوني ودوافعَه في انتقاد مسلك صديقِه اللدود. ففي مواضع عديدة لا يتأخّر الكوني عن إعلان إيمانِه بهذا الموقف الحدّيّ وإيمانه بدعوته هذه. وفي معرض انتقاده لصديقه الأمازيغي الراحل يؤكد الكوني أن “رسالة المبدع هي روحُ الهوية، وليس حرفُها، وأنّ روحَ الهوية هو الإبداعُ وليس مجرد التلويح بالشعار الداعي لتأكيد حرفِ الهوية، لأن التضحية بالروح إنما هي تضحية بالهوية الثقافية واستبدالها بجانبها المغاير والمميت، وهو السياسي”
لعلّ لهذا الخلاف في المفهوم الذي ثار بين أديبين ليبييْن أهمية قصوى، لأنه ينشب في فترة مضطربةٍ من التاريخ، بالإضافة إلى كونهما من أقليتين عرقيتين (إن جاز التعبير) تعرضتا للاضطهاد من “محفل الأغلبية” كما يسميه الكوني، الذي بهذا المفهوم يوضّح رؤيته الثابتة التي ما انفك يُعلنها على الملأ بأنّ روحَ الأمّة تكمنُ في القيمة، وأنه “لا وجود لأي قيمة حقيقية لأيّ أمة، وبالأخص الأقلية، بعيدا عن ثقافتها المعبّرةِ عن روحها.”