معنى الهُويّة بين الكوني والمحروق 1
فرج عبد السلام
في جغرافيا مسكونة بقمعِ الآخر المختلف، وحيث يتقاطع الهمّ العام مع الشخصيّ يسعى “إبراهيم الكوني” كعادته إلى إبراز خصائص الإثنية التي ينتمي إليها من خلال تأصيلِ قِيم وعاداتِ ساكني الصحراء من قومه. ومن أكثرُ أحقيّة ومقدرةً على التعبير عن موضوع “الهوية” الحيويّ والشائك في الوقت نفسه؟ من لديه القدرة والتجربة الذاتية المقترنة بمعرفة وقلمٍ رشيق على سبر أغوار الموضوع غير إبراهيم الكوني؟ وهو الذي ظلّت هُويته الصحراوية المتميزة تطارده طوال حياته وتَبرز بقوة في كتاباته.
الكاتب الليبي “إبراهيم الكوني” تفوّق على كل الظروف والمعوّقات التي عادة ما تظهرُ أمام النجباء والمجتهدين في مجتمعاتنا، ونال اعترافا عالميا بأدبه الذي قدّم من خلاله سردا إنسانيا بديعا ومتميّزا لحياة الإنسان في الصحراء، وبالنسبة له فالإبداعُ هو رحلةٌ لاستكشاف الحقيقة التي يصفها بأنها ليست في الواقع إلاّ حقيقةُ الاغتراب عن هذا الوجود. كما قدّم وصفا شائقا ومفصّلا للعلاقات في ذلك السديم الصحراوي الشاسع ناهلاً من صلته الوثيقة بتلك البيْئة الفريدة بكل تاريخها القديم والحديث، وبكل تراثها الثري بالأسطورة. وليس من الغريب إذن أنْ تتعلقَ جُلّ أعمالِه الإبداعية بالمكان الذي عاش فيه طفولته وشبابَه، وظلّ حاضرا في فكره لم يبرحه، فترجمَهُ نثرا وصياغة فريدة. فهو لا ينفكّ يذكُر دائما خلاءَه الصحراويّ المفقود، ليقرّر في النهاية أنه صار اليوم فردوسا مفقودا بالفعل.
في موسوعةٍ من أربعةِ أجزاء بعنوان “عَدُوس السُّرى” يُبحر الكوني بالقارئ في سيرته الذاتية الغنيّة بالأحداث التي صادفته في سعيه للتميّز وإبرازِ الانتماء الفخور لهويّته الإثنية التي تعرّضت لكثير من العسف والجور، ولمحاولاتِ طمسها خلال العهودِ والأنظمة المختلفة، ولعل أبرز المشاهد في سيرته التي يصرُّ الكوني على استحضارها دوما حتى في ظهوره الإعلامي المتعدّد هي قصة تِيههِ الشهيرة في الجزء الثاني من سيرته أثناء رعيهِ للأغنام وهو طفلٌ صغير، وكيف هداهُ حدسهُ إلى اقتفاء أثر بعيرٍ قاده إلى الواحة لتظل هذه الواقعة علامة بارزة في مسألة ارتباطه بالصحراء وأهلها ولتكون بمثابة هُويّة لقومه، وعاملا مشتركا في أغلب سردياته.
بكل اقتدار ووثوقيّة وسلاسة بدْهية أيضا، يطرح الكوني موضوعا شائقا وسؤالا مُحرقا يتعلق بمفهوم الهُوية لديه وعلاقتها بالمحيط. وفي حين لم نر الكوني يُفصح بشكل مباشر أو يتعمّق كثيرا في رؤيته لمسألة الهوية من خلال أعماله الروائية العديدة حيث يفرضُ العمل الإبداعي بأشكاله المتعددة على الكاتب أنساقا محدّدة في السرد فلا يتيح له التعبير بوضوح عن فكرةٍ ما وشرح مفهومه لها إلاّ عبر الرمز والاستعارة من خلال شخصياته بما تستدعيه الحبكة الروائية. إلا أنه يبدو أنّه وجد ضالته في هذه السلسلة من السّيرة للتعبير عن الكثير من آرائه ففتح أخيرا صندوق بندورا الخاص به والذي نثر محتوياته في “عدوس السٌّرى” ليمرّ بالقارئ على المحطات العديدة الخاصة فيأخذه في رحلة مشوّقة ومضطربة أحيانا لبدءِ تكوّنِ مَلكةِ الإبداع لديه ومراحلِ تطورها، ويُقرن كل ذلك بالمرور على أحداث اجتماعية وسياسية مرّت بليبيا والعالم، وقد يجد هذا الجانب من روايته الكثيرين من المخالفين له في رؤيته للأحداث وتفسيراتها.
محطات الكوني عديدة وشائقة تستحق الوقوف عندها وتدبّرها، ولم تخلُ سيرتُه من آراء حادة وخصومات لأغلبية الوسط الثقافي والأدبي والإداري، حيث يوحي الكوني للقارئ دوما أنّ الجميع يتآمرون ضده بسبب إثنيته الطارقية، ومن خلال ذلك نتعرف على مفهوم الهُويّة عنده، والتي يذكرها في أماكن عديدةٍ من سيرته، لكنه يُسهب في التعريف برؤيته لهذا الموضوع المهمّ من خلال علاقتِه بالكاتب والشاعر الليبي الراحل “سعيد المحروق” ولا يجد الكوني غضاضة في التأكيد على رؤيته للهوية التي يراها مغايرةً من حيث المبدأ والمفهوم لرؤية “المحروق” وكلاهما ينتمي إلى إثنية ليبية غير عربيّة تُعتبران من الأقليات في هذا الوسط العربي، أو هكذا يُظنّ، لأن كلاّ من الكوني والمحروق وبحّاثة كثيرين مهتمّين بالتاريخ يرون أن غالبية سكّان ليبيا الحاليين هم من أهلِ البلاد الأصليين الذين تم تعريبهم بعد الغزو العربي الذي اصطُلح على تسميته بالفتح الإسلامي.
يتبع جزء 2