مطاردة السحّارات
فرج عبدالسلام
أشهر من يستخدم تعبير “مطاردة الساحرات” (witch-hunt) هذه الأيام هو الرئيس الأميركي ترامب، عندما يشير إلى ما يقوم به خصومه ومعارضوه من تسقّطٍ لأفعالِه وأقواله التي يدّعون أنها مخالفة للأعراف والقوانين، وأن ممارساته لا ترقى إلى مستوى المنصب الرفيع والخطير الذي يشغله. وتاريخيّا يشير هذا التعبير إلى حملاتِ المحاكمة العنيفة التي شنّتها الكنيسة ضد من تتهمهم بممارسة السحر والشعوذة، وشملت هذه الحملات محاكمات صورية وإعدامات وإحراقا.
إذنْ “مطاردة الساحرات” تعبيرٌ وفعلٌ قديم، ملتبسٌ المحتوى والمعنى، مارسهُ البشر على مرّ العصور بصور متعددة، وهي عملية اضطهاد الأشخاص (غالبيتهم من الإناث المسنّات) اللائي يُشتبهُ بممارستهن السحر أو الشعوذة من قبل السلطات الدينية التي تعتبرُ أن لديها الحق في ترشيد وتقويم معتقدات وممارسات من تحت سلطتها. تاريخيا أيضا، هذا الحقّ بدأته وشرعنته الكنيسة الكاثوليكية ثم البروتستانتية، وغالبا ما انطوى فعل المطارة على تذعيرٍ وترهيبٍ أخلاقي، وهستيريا جماعية، وإعدامات بدون محاكمة. وحتى إنْ جرت محاكمات للمتهمين، فلم تكن سوى مهزلة، مصحوبة بمظهر الاستجواب الشكلي الذي يغطي الإدانة والحكم المسبق بتشنيع الفعل، حتى وإن كان مجرد ظنّ لا يرقى إلى الدليل، ومن ثم تطبيق أقسى العقوبات ظلما وبشاعة. وأشهر رواية عن محاكمة بتهمة السحر والشعوذة في اليونان القديمة هي قصة امرأة تدعى ثيورس، أُعدمت مع أطفالها نحو عام 338 قبل الميلاد بتهمة إلقاء التعاويذ واستخدام العقاقير المخدرة.
وتشير وقائع التاريخ القريب إلى أن الفترة الكلاسيكية لمطاردة الساحرات جرت في أوروبا أوائل العصر الحديث ما بين عام 1450 إلى 1700، مرورا باضطرابات الإصلاح الكنسي، ما أسفر عن الآلاف من عمليات الإعدام. ويصل عدد ضحايا مطاردة الساحرات بين 40,000 إلى 60,000. لم يخرج السحر في أوروبا عن الإيمان السطحي والساذج بالخرافات والسحر والجرعات السحرية، أي تلك الجرعات التي يتناولها عامة الناس بهدف الإنجاب أو الإجهاض أو لأسباب مختلفة، أو تغيير شعور الإنسان من الحب إلى الكره، والقدرة على التحكم بعناصر الطبيعة، أو تحويل الإنسان إلى حيوان أو جماع الإنسان مع الشياطين، وغيرها من الأساطير والخزعبلات. وبالرغم من كون السحر جزءاً من الثقافة الشعبية لعامة الناس – والأميين تحديداً – في العصور الوسطى. لكنه اندرج في العصر الحديث ضمن لاهوت ديني، اُعتبر فيه الشيطان المصدر الرئيس لجميع أشكال الشر والأذى. وبالمناسبة هناك تطابقٌ تام في هذا المفهوم مع الديانة الإسلامية، لكن الفرق يكمن في تخلي (مطاردي الساحرات) في العالم الآخر عما اعتبروها مجرد خرافات سطحية. بينما ما يزال آخرون في عالمنا يظنون بها، ويتصرفون بناء على ذلك.
في ليبيا المنكوبة، غيابُ الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها المؤسسات الأمنية نتج عنه استمرارُ حالة الفوضى والفلتان الأمني، وشبه شلل في منظومة القضاء، ما ساعد على سهولة الإفلات من العقاب في عموم البلاد. فما تزال جرائم الخطف والاخفاء القسري مستمرة ضد الرجال والنساء، و يواصل الجناة المجرمون ارتكاب جرائمهم دون خشية من عقاب، وما حادثة إخفاء النائبة سهام سرقيوة ببعيد.
آخر حلقات مسلسل الخطف شهدتها بنغازي، لكنّ تهمة المُختطفات هذه المرة ليست “سياسية” كتهمة سهام سرقيوة، وإنما ممارسةُ نوعٍ من الطب البديل ترى هذه المجموعات المؤدلجة المنفلتة بأنه يرقى إلى السحر والشعوذة، وتقرّرُ بالتالي أن تأخذ القانون في يدها، فتعذب وتقتل كما يحلو لها استنادا إلى فتاوٍ غامضة من وراء الحدود، ويشجعها فكرٌ مجتمعيّ متفشٍّ يركن إلى الغيبيات والخرافات والشائعات، والأهم من ذلك ركونه إلى الاستسلام لسطوة العنف المنفلت، وربما حتى لتبرير أفعال المستبدين بسطوتهم وأيديولوجياتهم الغريبة. فحبرُ التاريخ لم يجف بعد، ألم نخضع ونركن ونستسلم بالكامل إلى استبداد وخزعبلات أفسدت عقولنا، وخرّبت بلادنا طوال أربعة عقود؟
بعد مرحلة هدم ونبش القبور الأثرية والزوايا وحتى بيوت الله، وإتلاف جزء مهم من تاريخ ليبيا دون أن نحرك ساكنا، هل نقول إن مرحلة “مطاردة السحّارات” قد بدأت، بعد مقتل نساء في بنغازي، وبعد خطف وإخفاء العجوز السبعينية “مقبولة الحاسي” بتهمة الشعوذة، وما تزال مجهولة المصير حتى الآن؟ وبعد الظهور الملتبس للمتحدث باسم داخلية دولة شرق ليبيا على قناةٍ فضائية، رأى فيه كثيرون تبريرا ضمنيا لمطاردي السحّارت؟ يا لعجزنا وهواننا على أنفسنا وعلى الناس….