مستشفى الجلاء للحوادث يعاني
سالم العوكلي
شاءت حوادث القدر، وحوادث الطرقات الليبية المتهالكة البريء منها القدر، أن أكون طيلة الأسبوع الماضي في مستشفى الجلاء للحوادث ببنغازي، وهناك رأيت المأساة الليبية كلها تتكثف أمامي في هذا المبنى العتيق الذي شٌيد إبان العهد الملكي بهندسة ومعمار يناسب طبيعة المجتمع دون أن يتخلى عن حفاظه على انسياب الحركة داخله.
رأيت عن كثب المأساة الليبية في قطاع الصحة والمستشفيات التي نعاني منها منذ عقود، وازدادت أزماتها مع الفوضى التي عمت البلد بعد انتفاضة فبراير وسقوط النظام الذي وضع ليبيا على حافة الهاوية التي نسعى الآن للخروج منها.
كان الليبيون يستعينون بالسلف من المصارف ويبيعون ما لديهم ليذهبوا للعلاج في دول الجوار وغير الجوار، إبان النظام السابق عندما كان النفط يضخ بأعلى الأسعار، ومازال المحظوظون منهم قادرين على الذهاب للعلاج في الخارج وفي دول أفقر من ليبيا بكثير، ليس لضعف في قدرات الليبيين التقنية والعلمية ولمن بسبب قصور أو انعدام الإمكانات والمعدات التقنية التي أصبحت ذات أهمية قصوى في التشخيص والمعالجة. بعضهم انسحب إلى القطاع الخاص الذي إمكاناته أفضل والبعض مازال يكابد الصعوبات في المستشفيات العامة التي يأوي إليها الفقراء وما أكثرهم.
آثار الإهمال القديم ظاهرة على كل جزء في مبنى مستشفى الجلاء ببنغازي، وآثار رصاص الفوضى الأخيرة بارزة ندوبها في الممرات وصالات الانتظار، حيث الشجارات الدائمة، وحيث كانت لغة الجماعات المسلحة؛ التي حكمت بنغازي قبل تطهيرها منهم، هي اللغة الوحيدة للتعامل مع كل ظرف، بينما الخارجون عن القانون والمنفعلون بالفطرة مازالوا يهددون سلام المرضى والعاملين فيه.
الأطقم الطبية قليلة العدد تبذل قصارى جهدها من أجل التحكم في مساحة من الألم أكبر من قدراتها، حيث يغطي هذا المستشفى المنطقة الشرقية بكاملها، من امساعد إلى بن جواد إلى الكفرة، وحيث عمال النظافة يعملون طوال الوقت لتنظيف الممرات والغرف مما يتركه الزوار من بقايا سجائر ونفايات، ولأن الزيارة مفتوحة ــ رغما عن إرادة العاملين ــ طوال النهار والليل فإن التنظيف عادة يكون من تحت أقدام الزوار الذين يتذمرون من مكانس العمال حين تلامس أقدامهم.
لا أحد يستطيع أن يمنع الزيارة ويحدد لها وقتا معينا، أو يطلب من مواطن عدم التدخين داخل الممرات والغرف، لأنهم يتوقعون أن الرصاص سيكون اللغة الوحيدة المتاحة للرد، وفي أفضل الأحوال شتائم مقذعة مثلما حصل مع إحدى الممرضات التي طلبت من شاب يدخن في ممر غرف المرضى أن يخرج إلى الصالة على الأقل.
مستشفى الجلاء؛ الذي يخدم مساحة أكبر من مساحة فرنسا، فقير في أقل الإمكانيات، وأطقمه غير كافية لتلبية كل الطوارئ التي يعلن عنها عواء سيارات الإسعاف القادمة في كل وقت، حوادث سيارات، وشجارات، ومعارك ضد الجماعات المسلحة في شرق وجنوب وغرب بنغازي، وضحايا المفخخات والألغام، مازالت كلها مستمرة، وهذا الضغط النفسي والجسدي على العاملين مستمر منذ سنين طويلة، كانت فيها الإمكانات قليلة بسبب إدارة سابقة لا تعنيها سلامة وحياة المواطن، أو بسبب الفوضى العارمة التي أسقطت نظاما فصّل ليبيا على مقاسه.
كنت أحاول أن أُفهِم من يلقون بالشتائم جزافا: أنّ من يأتون إلى هذا المكان الخطر من أطباء وفنيين وممرضين من الجنسين بإمكانهم أن يقبعوا في بيوتهم مثلما فعل الكثيرون دون أن تتوقف مرتباتهم، ولأجل هذا علينا أن نحترم هذا التفاني الذي رأيته عن كثب وهذا الصبر المنقطع النظير عن شتائم وإهانات ولعنات يصبها عليهم مرافقو المصابين والمرضى، لكن الجميع منفعل ومن حقه أن ينفعل ،ولكن ليس من هؤلاء، بل ممن يقودون البلد ويتقلدون المناصب المهمّة، أولئك الذين أغلبهم يختلس الملايين بينما هذا المستشفى الحيوي ــ ملاذ من لا يستطيعون الذهاب إلى خارج ليبيا ــ يعاني الفقر في كل الإمكانات دون أن يلتفت له أحد إلا من رحم ربي، وما همهم طالما هم وأبناؤهم يجرون حتى عمليات الزائدة الدودية في أوروبا.
ما حدث أثناء تردي الخدمات الصحية منذ عقود أن الليبيين كلهم تحولوا إلى أطباء، يجادلون في تفاصيل الطب بعنادهم المعتاد، مثلما تحول كل الليبيين بعد فبراير إلى نشطاء سياسيين يدلون برأيهم في كل شيء دون دراية. وبهذا الحضور الدائم في ردهات المستشفى وبالجدال يربكون عمل المختصين الذين تتصادم أجسادهم بالزحام وهم يركضون في الممرات بين غرف المرضى. ورغم ذلك مازال مستشفى الجلاء للحوادث يقدم خدماته بفعل إرادة العنصر البشري فيه فقط، ومازال ينقذ الكثير من الأرواح ويعيد الكثيرين إلى بيوتهم معافين.
رسالة لكل من لايزال لديه ضمير، ولكل منظمات الصحة العالمية، أو المنظمات المدنية المختصة بقطاع الصحة والسلامة، أن ينجدوا هذا المرفق وأن يساعدوا العاملين فيه لتحمل مسؤولية تعجز عن حملها الجبال.