“مرسي” 1977 : “خللي أنور يلحق نوري”* !!
عبدالوهاب قرينقو
“يا مصرِنا ثوري ثوري خللي أنور يلحق نوري” .. بهذا الهتاف ذي السقف العالي كان يعلو صوت الأستاذ المصري الناصري الراحل محمد مرسي من أمام مبنى الكوماندا في مدينة هون الليبية، نوفمبر سنة 1977 م عقب زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إلى “تل أبيب” واعترافه بالكيان الاسرائيلي والتي أتبعها بعد عام بتوقيعه لاتفاقية كامب ديفيد والتي أسماها الإعلام الليبي آنذاك بـــ”اسطبل داود” .. ووجب التنويه هنا بأن “مرسي” المقصود هنا بالتأكيد ليس الرئيس المصري الإخواني الراحل محمد مرسي، فذاك كان ربما في نفس الفترة موجود في ليبيا ولكن في مدينة سبها، ولا أظن أن معاداة الكيان الإسرائيلي من اهتماماته ولا القضية الفلسطينية من اهتمام إخوان ليبيا المخفيين آنذاك ولا حتى في يومنا هذا.
في تلك الليلة كان المناضل الأستاذ مرسي ممن يقود الوقفة الاحتجاجية أمام الكوماندا ولا هتافات تنطلق إلا منه، باعتبار حاكم بلاده هو من وقع “اتفاقية العار والاستسلام” كما أفهمونا آنذاك ونحن الطلاب في المرحلة الإعدادية ومن أفهمنا ذلك أهلنا قبل الحكومة وبعض أقاربنا الناصريين قبل أساتذتنا في المدارس وهم من فلسطين نفسها ومن مصر وتونس والسودان .
أستاذ اللغة الانجليزية مثلاً فلسطيني اسمه “محمد قدورة”.. أول عشر دقائق لغة انجليزية وما تبقى عادةً ما ينسينا أنها حصة انجليزي ويفسح المجال لحصة حماسية فيحدثنا عن مجازر اقترفها الصهاينة في حق أبناء الأرض كــ “دير ياسين” و “بحر البقر” و”كفر قاسم” واحتلال فلسطين التاريخية ثم ضياع الضفة وغزة ونضال جبهة التحرير وأبو عمار ونايف حواتمة وجورج حبش وعمليات الفدائيين.
. . . ولكن ليس هذا وحسب كفيل بأن نكبر وننضج على الوفاء للقضية المركزية “قضية فلسطين” وحق شعبها في العودة، بل أن تعليم أهلنا لنا يفوق بمراحل زرع الأساتذة ذاك الأمر في عقولنا وكياناتنا، بيد أن طلاب آخرين يرجعوا لديارهم ليجدوا الآباء يتنصلون من القضية الفلسطينية لا لشيء إلا لأن حاكم ليبيا آنذاك يؤيدها أو يستخدمها أو يجيرها ليبقى فوق العرش .. كنا نفصل بين هذا وذاك .. كنا نسخر منه حين يسمي اليهود عبر تلفازه في الثمانينات بـ”قطعان الهمج الصهاينة” مع هذا كنا نكره أكثر منه -ولازلنا- الصهيونية والاحتلال الإحلالي الإقصائي لأرض فلسطين.
بعد أن بحت حنجرة مرسي الناصري جاء دور الليبيين “برعاية الاتحاد الاشتراكي الليبي” حين أحضر أحدهم علم الجمهورية العربية الليبية وهو راية الدولة منذ الانقلاب أو “ثورة الضباط” في غرة سبتمبر 1969 الذي هو نفس علم جمهورية مصر العربية منذ إطاحة ثورة 23 يوليو بعرش الملك فاروق .. طُرح العلم الليبي المصري المشترك أرضاً وصاح مرسي: “العلم اللي ارتفع في تل أبيب في فلسطين المحتلة ما ينفعش يكون علم ليبيا ولا مصر” ووسط التهليل والغضب و “يا مصرِنا ثوري ثوري”، أضرم الغاضبون النار في العلم -الذي لم يدم فوق سماء ليبيا أكثر من 9 سنوات من حكم معمر ورفاقه – ذي الألوان الأحمر والأبيض ثم الأسود وفي الأبيض يتربع صقر قريش أو نسر أصفر.
بعد هدوء عاصفة الغضب شخصت الأنظار إلى شرفة الكوماندا حيث وقف مدير مركز الشرطة بالمدينة وأشار بدوره إلى أعلى فوق سطح البناية الايطالية التاريخية كان الشرطي ينتظر الأوامر بإنزال علم الجمهورية الليبية المشترك مع مصر وسوريا ضمن دول اتحاد الجمهوريات العربية الثلاث وقام صول الوحدة بإنزاله والجميع ينتظر الراية البديلة، حينها قال مدير المركز للجمهور إن تعليمات القيادة جاءت بإلغاء العلم والبديل علم مؤقت بلون واحد إلى أن يبدع الفنانين الليبيين التشكيليين ويقترحون علماً خاصاً بليبيا .. وارتفع العلم الأخضر الذي يبدو أن القيادة العامة راقها واختفى فنانو ليبيا التشكيليين !! لاسيما وأن العلم الجديد ينسجم مع كتاب الحاكم الأخضر .
وشهدت العشرات من المدن الليبية الأخرى مظاهرات كهذه وفي نفس الليلة .. في الواقع لم استحضر وأتحدث عن ذكرى تلك المظاهرة الصاخبة – إلا لاحقاً بعد ثورة فبراير 2011 حين الاختلاف على العلم القديم الجديد الذي اختاره الآباء عند تأسيس المملكة لأُفهم الجيل الجديد أن العلم الأخضر لم يكن علماً لليبيا قبل ليلة حرق علم الجمهورية في 1977 .. ولكنني أول مرة استحضر فيها تلك الذكرى كانت سنة 2004 م ذات خريف في منتجع سما العريش في سيناء المصرية عندما صدمني ضابط بوليس مصري كان يجالسنا ذات مساء بجملة أحرجتني وأعترف بذلك رغم عدم قناعتي بها تماماً .
كنا “معزومين” على مهرجان الهجن العربي الذي ينظمه أهل سيناء من السكان الأصليين “أهل البادية” بالتعاون مع سكان بادية مصر الغربية المتاخمة لليبيا في ضمن حرصهم على “تراث البادية” إن جازت التسمية وكانت الدعوة ضمن توأمة بين فعاليات مهرجان سيناء ومهرجان الخريف بهون .
ما يهم أن جليسنا المصري كان ضابط بوليس في زي مدني ولم يخفِ انتسابه للشرطة المصرية ولا أتذكر لِمَ جلس معنا ! .. المهم أنه تجاذب معنا أطراف الحديث بكل ود وترحاب وحكيت له كيف زرنا من يومين مستوطنة اسرائيلية -بين رفح المصرية وقرية ازويد- مهجورة بعد أن خرج منها اليهود بعد إبرام الاتفاقية قبل 26 عاماً ، وبعجلة مني صارحته بأن نظرة السواد الأعظم من الشعب الليبي لاستسلام السادات ،قبل النظام الحاكم، هي تخلي السادات عن القضية وتحويلها من قضية مركزية للإقليم إلى قضية فردية تخص الفلسطينيين وحدهم وتركهم بذلك في مهب الريح وحماية الدول العظمى للكيان.
لم يغضب ضابط البوليس، ورتبته عقيد، بل عاجلني بعبارة واحدة: (شوف حضرتك لولا معاهدة الريس الله يرحمو لا انت ولا احنا حنقعد القعدة الحلوة دي مستمتعين بهذا المنتجع البحري على أرض سيناء المصرية) !! .. ساد صمت حذِر ونظرات ملامة تتجه نحوي من الرفاق الليبيين في “الجلسة” .
لم أفكر حينها أنها كلمة حق أُريد بها باطل ولا كلمة حق لحق المصريين في استرجاع أرضهم ولكنني أدركت من حينها أن لكل دولة عربية الحق في رسم ما تراه مناسباً في سياساتها الخارجية ومصالحها الاستراتيجية وما تراه مناسباً لأمنها واقتصادها وأمنها .. ومن الغباء أن تقطع بلادي ليبيا علاقتها مع أي بلد عربي يطبع مع دولة الكيان.
. . . ولكن في المقابل لا يمنعني أحد من أن أساهم في محافظة شعبي على الإيمان بالحق الفلسطيني المقدس بعودة جميع المطرودين واللاجئين والنازحين عنوةً من يافا وحيفا والناصرة وأم الفحم وعكة والخليل ونابلس وطولكرم وبيت لحم ورام الله وغزة والضفة على حد سواء.. الذين أُخرجوا من ديارهم ظلماً وبهتاناً وبأكاذيب سحيقة في تاريخ مزور وأن الإسرائيليين إن أرادوا سلاماً أبدياً أن يقتنعوا على أقل تقدير بالنموذج الجنوب أفريقي الذي منذ أن تمت تسويته مع المحتل الأوروبي والحكم مشترك بين البيض والسود .. وسأظل أستحسن ما حييت بأن جواز سفري الليبي ممهور عليه عبارة : يسمح لحامل هذا الجواز بالسفر لجميع دول العالم ماعدا دولة الكيان الاسرائيلي .. انتهى