“مبادرة على خطوط النار”
أعلن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السرّاج يوم 16 يونيو 2019 مبادرة للخروج من الأزمة الليبية، متمحورة حول “ملتقى ليبي” بالتنسيق مع البعثة الأممية للدعم في ليبيا. مبادرة فتحت المجال أمام جدل المعارضين والمؤيدين على حد سواء. إذ وجدت فيها الأصوات المتآلفة مع نغمة الإسلام السياسي والقيادات السياسية الداعمة للمجموعات المسلحة في العاصمة الحل الأمثل نسبة إلى المعطيات وشروط المرحلة، أما الأصوات المعارضة فقد وجدت فيها تكريسا للانقسام السياسي وتعزيزا للوضع السياسي لحكومة الوفاق التي ربما تحولت لطرف في الأزمة وحادت عن مهمتها الرئيسية “صنع التوافق بين الليبيين”
توقيت المبادرة ودوافعها
يتساءل كثيرون عن توقيت المبادرة، التي قدمها رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق تزامنا مع تصعيد عسكري عنيف بين الجيش الوطني وقوات الوفاق. فهل جاءت المبادرة “المتأخرة” كعملية إنقاذ سياسية للواقع العسكري الذي تعيشه قوات الوفاق، التي لم تستطع طرد قوات الجيش الوطني من المناطق والمدن التي سيطر عليها في المنطقة الغربية وجنوب العاصمة طرابلس؟
المبادرة التي ارتكزت على فكرة الملتقى الليبي الذي يجمع “كل مكونات الشعب الليبي ممن لهم التأثير السياسي والاجتماعي، الذين يدعون الى حل سلمي وديمقراطي” طرحت أسئلة متشعبة أكثر من توفير الإجابات.
فهل سيكون الملتقى تحت إطار الاتفاق السياسي؟ وما هو وزن الأجسام السياسية التي أنتجها الاتفاق السياسي فيها؟
المبادرة فتحت كذلك أبواب الأسئلة بخصوص شكل التسويات السياسية المقترحة ضمن نقاط المبادرة، فهل ستكون ضمن سياسة المحاصصة واقتسام السلطة وتبتعد عن كونها مبادرة للخروج من الأزمة؟
كما تبدو المبادرة لبعض المراقبين بمعنى المحاصصة السياسية ناقصة لتغييبها الطرف الذي يمتلك أجزاء واسعة من الأرض، نقطة لا يمكن تجاهلها بحسابات المحاصصة السياسية وبحسابات الجغرافيا العسكرية.
“رؤية لوقف إطلاق النار” الجزء المفقود من نص لمبادرة السراج
أثارت مبادرة السراج تساؤلات عديدة حول غياب رؤية تتضمن وقف إطلاق النار المرتبط بترتيبات أمنية ضمن مبادرة السراج التي أشارت إلى جوانب سياسية اجتماعية على مستوى تمثيل الليبيين في الملتقى المقترح.
إذ ربما يؤدي تجاهل الواقع الأمني الجديد بعد تاريخ 4 أبريل لعام 2019 للحكم بالموت على أي مبادرة سياسية تتجاهل الأزمة الأمنية، المرتبطة بالأزمة السياسية. حاول المبعوث الأممي إلى ليبيا حشد كل الجهود في انتقاله بين العواصم الغربية لصناعة رؤية دولية مشتركة تدعم خيار وقف إطلاق النار، وتدفع كل أطراف القتال دفعا إجباريا من خلال مخرجات يتبناها مجلس الأمن الذراع التنفيذي للأمم المتحدة، غير أن الظرف الدولي كان معاكسا لتطلعات البعثة الأممية، ولم يستطع سلامة انتزاع أي بيان أو قرار من مجلس الأمن. أسئلة أخرى طُرحت حول دوافع السراج لتجاهل وقف إطلاق النار غير المشروط، الذي ترفضه المجموعات المسلحة وجماعات الإسلام السياسي رفضا قاطعا دون أن يكون مشروطا بعودة قوات الجيش الوطني من حيث جاءت. في هذا السياق طرحت فرنسا مبادرة لوقف إطلاق نار سبقت مبادرة السرّاج، وهي مبادرة أتت مرتبطة بتحديث آليات الترتيبات الأمنية في العاصمة، وربما في تناغم مع اتفاق أبوظبي.
كانت الترتيبات الأمنية جزءا من خطة البعثة الأممية للدعم في ليبيا، والتي تضمّنت معالجة أمنية ومعالجة اقتصادية. غابت الترتيبات الأمنية عن نقاط المبادرة وحضرت في خطاب السراج، الذي أكّد أن حكومة الوفاق الوطني تسير بخطوات جيدة في مشروع الترتيبات الأمنية ودمج المجموعات المسلحة ضمن الأجهزة الأمنية الرسمية للدولة. حضور الترتيبات الأمنية في كلمة السراج منفصلة عن المبادرة، ربما تشير إلى إصرار رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق احتكار العمل على مشروع الترتيبات الأمنية دون إشراك الجيش الوطني، وهو إعلان ضمني للتنصل من كل اتفاقات أبوظبي التي أشارت إلى تعاون أمني مشترك بين الجيش الوطني وحكومة الوفاق بخصوص العاصمة طرابلس وإعادة سيطرة الجيش على بعض معسكراته وثكناته في طرابلس.
ترحيب أممي حذر ورسالة ضمنية للقوى الفاعلة الأخرى
سارعت بعثة الأمم المتحدة للترحيب بالمبادرة، غير أنها فتحت الباب أمام تقديم مبادرات أخرى للقوى الفاعلة، إذا تضمن ترحيب البعثة ” ترحب بمبادرة السراج وأي مبادرة أخرى تقترحها أي من القوى الفاعلة لإنهاء حالة النزاعات الطويلة في ليبيا”
يبدو حديث البعثة عن الترحيب بأي مبادرة أخرى تقترحها القوى الفاعلة إشارة إلى أن مبادرة السراج وحدها لا تكفي لتمثيل مصالح كل القوى الفاعلة، وقد يُفهم منها اعتراض ضمني على تغييب القوى الفاعلة الأخرى المتمثلة في الجيش الوطني ومجلس النواب في الشرق. وهي رسالة لضرورة تقديم مبادرات أخرى تصنع توازن المصالح السياسية المطلوب لتتوحد المبادرات في إطار مبادرة المبعوث الأممي غسان سلامة.
ويرى محللون أن مبادرة السراج على أهميتها، قد لا تحظى بقبول محلي وإقليمي لتجاهلها الكامل للطرف الآخر الذي كان حاضرا في اتفاق باريس واجتماع روما واتفاق أبوظبي “الجيش الوطني”.
نصيحة سياسية متأخرة
يرى بعض المراقبون أن المبادرة التي قدمها رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق المعترف بها دوليا والتي لم تنل الثقة من البرلمان الليبي، هي بذرة زرعت في موسم سياسي متأخر، وربما كانت ستكون النتائج مختلفة لو قدم السراج مبادرته مبكرا فترة الجمود الميداني وانخفاض مستوى التصعيد العسكري في شهر مايو الماضي وتزامنا مع جولته الأوروبية التي بدأت يوم 7 لشهر مايو، انطلاقا من روما مرورا ببرلين وفرنسا ثم بروكسل. وتجد بعض الآراء أنها نصيحة متأخرة وصلت للسراج بضرورة تقديم مبادرة وطنية بصفته رئيس الحكومة المعترف بها دوليا.
كان الأوروربيون في انتظار مبادرة السراج الذي وصلهم خالي الوفاض إلا من حرصه البالغ على تجديد اعتراف المجتمع الدولي به ممثلا للشعب الليبي..
خيبة أمل أوروربية ترجمتها تصريحات الإليزيه في باريس قبيل قدوم السراج إلى فرنسا “في وقت يشهد فيه الوضع الميداني نوعًا من الجمود، سنرى إذا كان السراج يقترح مبادرات لوضع حد للصراع” ما فُهم منها عدم رضا فرنسي عن الأداء السياسي لرئيس مجلس الرئاسي وتأخره في احتواء الأزمة. جدير بالذكر أن الرئاسة الفرنسية لم تتردد في إعلان استيائها من الرجال المحيطين بالسراج ” السراج رجل سياسي براغماتي ويمكننا العمل معه. ولكن في محيطه وبين الأشخاص الداعمين له، ثمة راديكاليون، وأطراف، وفصائل يعتبرون أنه من الأسهل التصويب على الخارج”.
انتخابات بجدول زمني ضيق
ذكرت مبادرة السراج في نقطتها الثانية أنه “سيتم الاتفاق خلال الملتقى على خارطة طريق للمرحلة القادمة، وإقرار القاعدة الدستورية المناسبة، لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة قبل نهاية عام 2019”
بعض الآراء القانونية ترى أن لغة تجاهل الواقع السياسي تسود من جديد في مضمون المبادرة التي تجاوزت مشروع الدستور الذي أنجزته الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور المنتخبة ديمقراطيا من الليبيين، في تعارض واضح مع الاتفاق السياسي، وفي تجاوز لشرعية شعبية منحها الليبيون لهيئة الدستور التي رمت الكرة في ملعب مجلس النواب الذي بدا أنه يعرقل عملية الاستفتاء على الدستور من خلال قانون استفتاء ينهك الناخب الليبي، وعبر الضغط على المفوضية العليا للانتخابات في جدول زمني غير قابل للتطبيق لإنجاز الشروط الفنية التي تضمن عملية استفتاء شعبية صحيحة.
خيار الانتخابات شهد انقساما دوليا كونه الحل المناسب للأزمة الليبية من عدمه، ففي وقت سابق دفعت فرنسا بالانتخابات من خلال اتفاق باريس كحل وحيد للأزمة في تناغم مع موقف البعثة الأممية، في مقابل توجس إيطالي يختلف كثيرا مع الموقف الفرنسي، معتبرا أن الجدول الزمني الذي طرحه اتفاق باريس مفارق للواقع الليبي.
يعود السراج ليضع شرطا زمنيا يتجاوز أبرع شروط رئيسية لضمان نجاح عملية انتخابية ديمقراطية؛ شروط تكلم عنها المبعوث الأممي سابقا، تتضمن الشروط الأمنية، والقانونية، والدستورية، والفنية، والسياسية، شروط يشهد الواقع الأمني السياسي الليبي أن نصابها لم يكتمل بعد في ظل الظروف المحلية والإقليمية والدولية الراهنة.