“مايكل جاكسون” النازح في موسيقاه
سالم العوكلي
مايكل جاكسون الذي كان يغني ويرقص بسجية جامحة مع أشقائه الأكبر منه سناً ، كان يرى وسط الجمهور المحتشد طريقه المقبل. كان الجمهور مثل الضباب الذي يخيم على ضفاف هذا الطريق الغامض ، وكان صدى الموسيقى الحمقاء يتراقص كالسراب أمام أذنه القادرة فطرياً على ترويض النشاز لحماقة الموسيقى ، لم يكن مايكل جاكسون تافهاً ولا سطحيا كما تروج له الميديا الشعبية لدينا، لأنه ببساطة كان يتهكم في ذروة وجده الغنائي على ثوابت العقل الشعبي وعلى ترسيمات النخبة المترددة في خرق التقاليد وإن كانت تعشق المغامرة المحسوبة.
فتح جاكسون للرقص وتجليات الجسد الإنساني أفقا جديداً جعل من كل عضلة تعبيرا ومجازا، وأحال أعضاء الجسد إلى فرقة رقص كاملة يضبطها تناغم الأجزاء لحظة حلولها في الإيقاع المتكرر ، والتكرار في موسيقى البوب يعني الوجد الأقرب لذلك الحلول الصوفي في آلهة الموسيقى، تكرار يجعلنا مشاركين فاعلين وليس سلبيين ، وهو من جانب آخر تكرير لمركب الروح والجسد حين يحلان سوياً في هارموني كأنه الماء الذي لا ضفاف له… وذلك التناغم بين حركة الكتف والقدم يجعل من الجسد كينونة إيقاعية ، شيء ما يشبه تلك الحركة الساحرة في مصنع يعمل ضمن معادلة التوقيت الصعب ، وتأخر جزء من الثانية يدمر كل شيء .. هكذا يحل الجسد في زمن الإيقاع متخلياً عن زمنه التقليدي ، تتناثر أعضاؤه في جدول المواقيت الصعبة ، وكل ما فيه يطيع الأذن الخارجة عن طورها ، الأذن التي لا تسمع شيئا ولا ترى سوى طبول الروح في أدغال بعيدة .
غنى جاكسون عن العنصرية والطفولة المهددة والبيئة المطعونة في فطرتها ، وعن وحشية العالم التي مازالت تتبجح في سيرة جيناته، وبعث برسائله إلى تلك المساحة الغامضة التي حدق فيها وهو طفلاً يعاند ذاكرة اللون على مسرح مكشوف على الخلاء المزدحم ، تلك المساحة الغامضة التي تشبه ضباباً تراءى فيه طريقه الشاحب ، أرسل لها رسائله القلقة وهو على قمة القلب الملون في العالم : “أن أنقذوا العالم وأحيلوا السيوف إلى محاريث ، وضعوا بدل كل بندقية زهرة” .. ووسط هذه الصرخات لم يتخل عن حالة المس التي أدرجته في صميم تردد العاشقين لنزواته ، كان واقعاً في غرام نفسه ، وموقنا أن لهذا الجسد النحيل الذي اخترق المكان والزمان الحق في أن يكشف عن طاقاته الغامضة وعن أسئلته تجاه التاريخ والمصير ، وتجاه الحياة اليومية التي استبدت بكيانه عبر زحام العيون أمام شعوذته الفنية التي لا تقف عند حد ، ولأن اللون ذاكرة النزوح العظيم وعلامة الهامش المزدرى ، أيقظ سحر الكيمياء ونزق الروح للنزوح الثاني من وجع الذاكرة ، وكانت تلك المساحيق المبيّضة إدانة للإنسانية التي مازالت غير قادرة على مغفرة اللون، وغير مهيأة للنسيان. ذلك الوجه النحيل المتقلب رسم كاريكاتير مشاكسا يتهكم على الحضارة الملوثة التي انتهك ضميرها بشعره المنحاز إلى الهامش والفطرة، وبرقصه المتمرد على أرشيف حركة الجسد ، وبموسيقاه المارقة عن هارموني السكون الخالد .. كأن ثورة رطبة تتوهج تحت دوائر الضوء ، تجعل كل من يصيبه مس منها يترنح ، وتقوض بالخنوثة كأصل للوجود أبنية الحكمة وثنائية الجنس البشري التي جعلت من الجندر طبقة ومن اختلاف التكوين الجسدي خلافا في المعنى.
لا يمكن فهم ظاهرة مايكل إلا عبر قراءة كتاب “شاعرية أحلام اليقظة” لغاستون باشلار. خصوصا فصله الثاني الذي يرصد صراع الذكر والأنثى “أنيما ـ أنيموس” داخل النفس الإنسانية ، المبدعة تحديداً: “إن أفضل تأملاتنا الشاردة تأتي في كل واحد منا، رجالاً أو نساءً، من مؤنثنا. إنها منطبعة بأنوثة لا تقبل الجدل. لو لم يكن فينا كائن مؤنث، كيف نستريح؟.” ويشير باشلار لتصدير موريس باريس الذكي لكتاب “السيد فينوس” لراشيلد ، الذي يلمح فيه إلا أنها ليست قصة حب كما يتبدى للوهلة الأولى ،ولكنها “قصة روح بعنصريها المذكر والمؤنث”. يقول باشلار عن باريس نفسه : بعد غرامياته الأولى ، ألم يحلم باريس بأن يخلق لنفسه وجها أنوثيا، رقيقا وناعما، يختلج فيه، يكون هو.”. كما يشير باشلار في صدد بحثه عن قوى الأنوثة التي تقف خلف عبقرية الفنان “إنني أحب ذاتي فقط لعطر روحي النسائي”. باريس يقول.
ذاك الجدل العميق بين الأنوثة والذكورة، بين الأنيما والأنيموس، هو الذي ولّد الجدل الثري بين حياة جاكسون وفنه، وهو ما وضع وجدان عاشقيه في قلب الالتباس، وتلك الخنوثة الأصيلة هي التي أدرجت الكائن من جديد في لحظة تردده القصوى وقوضت أيضاً وهم التضاد ولعبة الثنائيات التي يستهلكها العالم مثل شراب الكوكا . وحماقة الموسيقى كما يصفها كونديرا كانت تصيب يقين الصفوة في مقتل.
مارس 2006