ما بعد آخر برميل بترول!
سليمان جودة
في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية الصادرة صباح الرابع من هذا الشهر، قرأت مقالاً مُطولاً للدكتور جمال سند السويدي، جاء تحت هذا العنوان الرئيسي: «ما بعد النفط!».
لم تكن المرة الأولى التي أطالع فيها مادة منشورة تحت عنوان كهذا، فما أكثر الأحاديث خلال السنوات الأخيرة حول القضية التي يثيرها المقال، ولكنها المرة الأولى التي يتعرض فيها للموضوع قلم له ثقل الدكتور السويدي في بلاده وفي الخليج بين أصحاب الكلمة، وهي أيضاً المرة الأولى التي يتم فيها تناول القضية بهذه التفاصيل الضرورية في بابها!
أذكر أن قمة الحكومات التي تنعقد في دبي، في مثل هذا الشهر من كل سنة، كانت قد تعرضت للقضية نفسها قبل ثلاث سنوات من الآن، وأذكر جيداً أن ما قيل في القمة وقتها كان على النحو التالي: دولة الإمارات تتوقع أن يخرج آخر برميل نفط من أرضها بعد خمسين سنة، وهي تتهيأ لهذه المسألة منذ اللحظة، وتضع حساباتها أمامها بالورقة والقلم!
والفكرة الأشمل هي: كيف تستعد دول الخليج لمرحلة ما بعد النفط؟ وكيف يمكن لاقتصادها في تلك المرحلة أن يقوى ويتماسك ويقف على قدميه، دون حاجة إلى عائد نفطي يساعده ويسنده؟!
وبمعنى آخر: كيف يمكن لدولة الإمارات العربية – على سبيل المثال – أن تستعد وهي لا تزال في بدايات السنوات الخمسين، لمرحلة ما بعد البرميل الأخير؟ وكيف يمكن تنويع اقتصادها على النحو الذي يخلق له مصادر أخرى بخلاف النفط؟!
استوقفني في المقال شيئان اثنان؛ أولهما أنه يرى أن نفط المستقبل سوف يكون في شيء محدد، هو: اقتصاد البيانات الضخمة. وثانيهما أنه يعدد استعدادات الإمارات لهذا المستقبل، ويراها متجسدة حالياً في أربعة كيانات نشأت بالفعل، هي: جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، ووزارة الذكاء الاصطناعي، ومجلس علماء الإمارات، ثم مجلس الثورة الصناعية الرابعة!
ولا بد من أن هذا المجلس الأخير يخاطب العصر بامتياز، فضلاً عن أن الكيانات الثلاثة الأخرى تمهد الطريق إلى مستقبل يكون النفط فيه – في الغالب – قد نضب، ويكون نفط آخر من نوع مختلف قد حل في مكانه، وعندها سوف تشعر الدولة التي استعدت جيداً على هذه الصورة، وكأن نفطها الذي تدفق من باطن أرضها منذ بدايات السبعينات من القرن العشرين لا يزال يتدفق، ولكن في صورة نفط جديد ومن نوع مختلف، وربما يتدفق النفط الجديد وقتها بحيوية أكثر!
ومن المفارقات العجيبة أن وسائل الإعلام العربية تداولت في التوقيت نفسه لنشر المقال المشار إليه، تقريراً صدر عن صندوق النقد الدولي، يقول إن الاحتياطيات المالية لدى دول الخليج سوف تنفد في موعد أقصاه 15 سنة من هذا العام!
وهذه أيضاً ليست المرة الأولى التي تروّج فيها مؤسسات دولية من نوع الصندوق، معلومات عن مستقبل الاقتصاد في الخليج، ولكنها المرة الأولى ربما التي تحدد فيها مؤسسة كالصندوق عاماً على وجه التحديد، وتقول عنه إنه سيكون العام الفاصل في الموضوع!
وما أذاعه الصندوق في هذا الشأن ليس مقدساً بطبيعة الحال، ولكنه دليل – في باب من أبوابه – على أن النهج الذي تفكر به الإمارات، بالطريقة التي شرحها مقال صحيفة «الاتحاد» لصاحبه، هو نهج يمشي على الطريق الصحيح، وأن دول الخليج التي لم تسلك هذا النهج بعد، مدعوة إلى اللحاق به بسرعة؛ لأن وضع اقتصادها المعتمد بشكل شبه كلي على النفط لا يحتمل التباطؤ ولا التأخير!
وأظن أن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، كان واعياً لهذه المسألة منذ بداية وجوده في موقعه، وكانت الآية الدالة على ذلك أنه راح يتبنى سياسات كثيرة تشير إلى وعيه بها وتؤكده. ومن بين هذه السياسات – مثلاً – حديثه المستمر عن مبدأ كفاءة الإنفاق في كل إنفاق عام على امتداد المملكة، ثم – وهذا هو الأهم – حديثه ضمن «رؤية 2030» عن أن اقتصاد بلاده يجب أن يصل إلى وضع قبل هذا التاريخ، يكون فيه قادراً على أن يحيا بشكل طبيعي دون اعتماد على النفط!
وهو ما جرى الكلام عنه طوال السنوات القليلة الماضية، على أنه تنويع لمصادر الاقتصاد، فلا يظل حبله السري متصلاً بدخل البترول دون سواه من المداخيل!
والحقيقة أن استعدادات المملكة لعصر ما بعد النفط، تبدو أنها كانت مبكرة، وهي كانت مبكرة لأن لها بدايات تعود إلى أيام الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي لما تولى الأمر في البلاد سارع – يرحمه الله – إلى التأسيس لجامعة تكنولوجية تحمل اسمه، ثم سارع إلى موضوع آخر أشد أهمية، هو الاهتمام ببعثات الدراسة في الخارج، وإعطاؤها الأولوية في السياسات التعليمية!
وفي مناسبات مختلفة كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، يعلن انحيازه الواضح إلى هذه الأولوية، وكان في مرات قد أعطى توجيهاته بنقل طلاب سعوديين يدرسون في الخارج، من الدراسة على نفقتهم الشخصية إلى الدراسة على نفقة الدولة، وكان هذا دليلاً على انحياز لا تخطئه العين إلى الأرض التي ستنبت نفط المستقبل!
وكان السفير أحمد قطان، وزير الدولة السعودي للشؤون الأفريقية، قد دعا إلى لقاء في بيته على ضفاف النيل في القاهرة، وقت أن كان سفيراً لخادم الحرمين الشريفين لدى مصر، وكان قد ذكر عدد الدارسين السعوديين في جامعات العالم الكبرى. وما أذكره أن الرقم كان مفاجأة لكثيرين من الحاضرين، لم يكونوا يعرفون أن اهتمام الرياض ببعثاتها الخارجية قد بلغ هذا الحد من التطور!
ومن قبل، كان وكيل لوزارة التعليم العالي السعودية، قد ذكر في معرض حديثه عن القضية ذاتها، أن كل مبعوث سعودي يدرس في الخارج هو في حقيقته جزء من نفط المستقبل في بلاده!
فإذا ما أردنا ربط هذا كله بما بدأت به هذه السطور، كان علينا أن نقول إن نفط المستقبل في المملكة وفي الإمارات، وفي غيرهما من بلاد النفط عموماً، إنما هو الإنسان المتعلم الذي حصل على خدمة تعليمية جيدة في بلاده أو في غير بلاده، لا فرق، فالمهم أن يتعلم، والأهم أن يربطه تعليمه بعصره، وأن يجعله قادراً على مخاطبة العصر، وعلى العيش فيه!
نفط المستقبل هو هذا الإنسان، سواء بالنسبة للبلاد التي عرفت ثروة النفط الحالية، أو حتى بالنسبة للبلاد التي لم تعرفها!
والمعنى أن البلاد التي حرمتها ظروف الطبيعة من نفط هذا العصر، الذي يتدفق في أجزاء من أرض المنطقة منذ خمسة عقود، تستطيع أن تصنع نفط مستقبلها إذا شاءت، فأنفقت على تعليم الإنسان!