نجيب الحصادي
حسب سايمون فوشير، نحن معرضون للدوغمائية مذ كنّا أجنّة في أرحام أمهاتنا. صحيح أنه على المرء أن يتوقف عن الشك من أجل إنتاج المعرفة، ولكن قليل من الناس يدركون أهمية عدم التوقف عنه قبل الأوان. إننا نتعجل اليقين، ونغفل عن حقيقة أن هناك باستمرار بجعات سوداء مآلها أن تبطل اعتقادنا في أن كل البجع أبيض. وعلى حد تعبير برترند رسل، هذا درس يدفع ثمنه الدجاج كل يوم، حين يدخل عليه صاحبه بسكينة الذبح بعد أن دأب على إطعامه كل يوم. الماضي لا يعمل دائما لحساب المستقبل. حقيقة أنك عشت سنين طويلة لا تزيد بل تقلل من احتمال أنك سوف تعيش سنين طويلة أخرى. الغوامض، لا المعارف، قد تقرر في النهاية ما سوف يحدث في المستقبل. لعله ما كان لأحد من رجالات الساسة في سبعينيات القرن الفائت أن يتنبأ بانتهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، أو بتوقف الحرب الباردة، أو بسقوط حائط برلين. ولعله ما كان لأحد أن يتنبأ بسقوط ثلاث طغاة عرب في أقل من ستة أشهر. لكن التمييز انتهى، والحرب توقفت، والحائط سقط، ومن بعده سقط الطغاة.
وفي عام 1880 أعلن تومس أديسون أنه ليست للحاكي أي قيمة تجارية، وبعد مرور قرن صرح كين أولسون، رئيس إحدى أكبر الشركات الإلكترونية، بأنه ليس هناك أي مبرر يدعو لاقتناء المرء حاسوبا في بيته. لكن الحاكي حقق أرباحا تجارية لا تصدق، وعدد من لا يقتنون حواسيب في بيوتهم يتناقص كل لحظة. في عام 1978 تنبأت شركة آي.ب.م. بأن عدد ما سوف تبيع من حواسيب في الثمانينيات لن يتجاوز 295 ألف حاسوب. لكن مبيعاتها بلغت في ذلك العقد 25 مليون جهاز. في كتابه “البجعة السوداء” يخبرنا نسيم طالب كيف أن كثيرين اعتقدوا أن الحرب اللبنانية سوف تنتهي في غضون أيام قليلة، ولبثوا ينتظرون في غرف الفنادق وفي مساكنهم المؤقتة سبع عشرة سنة. الكوبيون جاءوا إلى ميامي لاجئين بحقائب سفر نصف مملوءة، وكذا فعل الإيرانيون الذين لجؤوا إلى باريس ولندن فرارا من الخميني، وثمة منهم من يظل حتى الآن ينتظر العودة مما اعتقد أنه هجرة مؤقتة وعابرة. أما يفجينيا كراسنوفا فقد كانت روائية مغمورة ولم يكن هناك من الناشرين من يرضى أن يمنحها دقيقة من وقته. وحين قال لها أحدهم “إن كتابك يا عزيزتي سوف تباع منه عشر نسخ، بما فيها النسخ التي سوف يشريها أزواجك الثلاثة السابقون”، نشرته على شبكة الانترنت، فقرأه جمهور صغير، من ضمنه صاحب دار نشر صغيرة مغمورة، أعجب به فعرض عليها نشره مقابل نسبة ضئيلة من أرباح المبيعات. غير أن الكتاب حقق أكبر النجاحات الغربية في تاريخ الأدب، فبيعت منه الملايين من النسخ، فضلا عن تلك التي اشتراها أزواجها الثلاثة، وتُرجم إلى أربعين لغة، فيما أصبحت دار النشر شركة عملاقة. الموازين تنقلب بين ليلة وضحاها، والمضائق تنفرج عشية استحكام حلقاتها. لكن هذا لا يعني أن علينا أن نؤسس أحكامنا على الأوهام والأماني، ولا يعني أنه يلزمنا أن نطرح جانبا شواهدنا على المستقبل، بل يعني فحسب أن علينا ألا نسرف في الثقة فيها، أن نعترف باستمرار بأن ما لا نعرف قد يكون أكثر أهمية مما نعرف، وأن مآل من يعاني من التشبث والصلف المعرفي أن يواجه بجعة سوداء على قارعة الطريق.
فكرة السيناريوهات مصممة أصلا للتعامل مع غير المتوقع، فضلا عن المتوقع. تحديدا فإن مهمتها تتعين في اكتشاف وتحليل ما يعرف بالظنيات الحاسمة؛ وعرض وتقويم شبكة واسعة من الرؤى المتباينة؛ وفهم تعقد البيئة المحيطة بشكل أفضل؛ والتعرف على التغير بشكل أسرع؛ والتكيف مع المتغيرات عبر خطط واستراتيجيات بديلة. السياق الأساسي الذي تعرض فيه السيناريوهات هو سياق الرؤى الاستشرافية والخطط المستقبلية، أكان ما يستشرف وضعه ويخطط لمستقبله أمة أم شركة أم مؤسسة أم قطاعا.
السيناريوهات سرديات متباينة تصف المستقبل الذي لا نعرف. إنها أدوات لترتيب مدركاتنا بخصوص أوضاع قد نتخذ فيها قرارات حاسمة وقد يرتهن لطبيعتها نجاح الرؤية أو المخطط الذي نتبنى. تركيز السيناريو مكمن قوته، والسيناريوهات الفعالة هي التي تتم تبيئتها بحيث تستجيب للظروف الراهنة. إنها مستقبلات ممكنة متعددة لا مفردة؛ فروض لا تكهنات؛ سرديات وليست خططا؛ وهي تصمم لتوسيع الخرائط الذهنية وليس لتعزيز أي يقينيات.
الظنيات الحاسمة هي العوامل التي تؤثر في مستقبل رؤانا الاستشرافية ونحكم بأنها مهمة لكن طبيعتها ليست واضحة تماما. ومن المهم أن نحدد ما هو ظني وغامض وأن نعرف كيف نتعامل معه وفق أي وجه تكشّف، سبيلنا في ذلك هو اعتبار كل ظنية طيفا من البدائل الإيجابية (أي التي تكون في صالح الرؤية المقترحة) والسلبية (التي قد تعرقل تنفيذها)، وتحديد ردود الأفعال التي يفترض أن نقوم بها في كل حالة. ولأن الظنيات في أي سياق متعددة، يلزم أن نحدد أكثرها حاسمية وأن نبين طريقة تعاملنا معها وفق تباديل تكشفاتها. مثال ذلك، قد تكون إرادة الإصلاح قوية، لكن المجتمع لا يثق فيها كما يجب، وقد يحدث العكس؛ وقد ترتفع أسعار النفط وقد تهبط، وقد تفعّل أنشطة المجتمع المدني وقد تُقمع. وبطبيعة الحال، ثمة تأثير متبادل بين كل هذه الأوضاع الممكنة، وهكذا يلزم أن تكون لواضعي الخطط الاستراتيجية القدرة على تحديد مصير رؤاهم وفق كل سيناريو، على الرغم من أن هذا لا يلزمهم بتقديم مساومات من أجل التكيف مع ما قد يحدث، فمهمتهم في نهاية المطاف لا تتعين في اتخاذ القرار بل في ترشيد عملية اتخاذه، وفي جعل صاحبه على دراية كافية بالتحديات التي تواجهه.
ينبغي أيضا نقاش وجاهة كل بديل، في ضوء ما يتوفر من شواهد على إمكان حدوثه، ولكن دون إغفال السيناريوهات التي لا نمتلك شواهد كافية على وجاهتها، حتى لا نستبعد بدائل قد تتحقق على الرغم من كل التوقعات بعدم وقوعها. بطريقة ما يتعين أن يكون السيناريو مشككا في الحكمة السائدة، وممكن الحدوث (حتى لا نخوض في بدائل مستحيلة)، ومتوازنا يقيم اعتبارا لجدل التحديات والإمكانيات المتوفرة. يجب أيضا التنويه إلى المخاطر التي تواجه كل سيناريو، وإلى فرصه في النجاح، وتحديد الجهات الفاعلة التي يرتهن قرار تنفيذ الرؤية المقترحة لمواقفها، وتحليل افتراضات هذه الجهات، وبواعثها، ومصالحها، وتوقعاتها، والسلوكات التي قد تقوم بها.
مفهوم السيناريو مفهوم عقلاني وعلمي وعملي. عقلاني لأن العقلانية تعني تحقيق الأهداف عبر تبني أنجع السبل الممكنة في تحقيقها، وعلمي لأنه يركن إلى مفهوم الفروض وعمليات التحقق من مصداقيتها، وعملي لأنه يعزز القدرة على التكيف مع مختلف الأوضاع الممكنة. الحال أن فكرة السيناريوهات تعصم الفكر الرغبوي عن أن يكون مجرد فكر رغبوي، وتحول دون أن تكون الرؤية مجرد رؤيا، أو مجرد حلم آخر ينضاف إلى رصيدنا المتخم بالأضغاث، أو مقترح جديد مآله أن يقبع في أرشيف الرغائب. وفي النهاية، فإن البديل للسيناريوهات هو التيقن من أن مسار المستقبل واحد، وأن الظروف القادمة سوف تتشكل وفق ما نرتئي أو نريد، وهو بديل قد تدفع ثمن الرهان عليه شعوب بأسرها.