ليبيا ليست كياناً هشّاً قابلاً للتقسيم
د. جبريل العبيدي
دعاة تقسيم ليبيا عبر التاريخ ليسوا من الليبيين، منذ مشروع بيفن – سفورزا في 17 مايو (أيار) 1949، الذي هزم بعزيمة الأجداد وإصرارهم على منع التقسيم ورفض الوصاية الاستعمارية للدول الثلاث؛ بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، بقرار أممي كان سيصدر، لولا فارق صوت جاء من هايتي، أعلنه السيد إميل سان لو، الذي صوّت ضد المشروع المشبوه لكل من إرسنت بيفن وزير خارجية بريطانيا، والكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا، وهو اتفاق سري يتضمن مشروع تقسيم ليبيا.
وتكرر المشهد ضمن مشروع الفوضى الخلاقة لكوندوليزا رايس، وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، ولعل ما أظهرته صحيفة «الغارديان» نقلاً عن مشروع جوركي لتقسيم ليبيا بعد فوضى الربيع العربي، يؤكد أن قضية تقسيم ليبيا هي مؤامرة دولية، لها دعاتها ومطبّلوها من تجار وسماسرة الكلمة، وليست مطلباً ليبياً تفرضه معطيات ليبية خالصة، فليبيا شعب واحد، وليست كماً ولا صورة سوداوية كما تخيلها الكاتب الأميركي جاستن ريموندو، مجرد نتاج زواج قسري بين أقاليم ثلاثة، فرضتها إرادة غربية لنهب ثرواتها، في حين العكس هو الصحيح، والدليل مشروع بيفن – سفورزا.
والتعلل بكون ليبيا بعد تخلي السلطة العثمانية عنها، وبعد الصراع الذي حدث إبان الحرب العالمية على أرضها بين الحلفاء والمحور، وهزيمة إيطاليا، أصبحت ليبيا مقسمة إدارياً بين فرنسا وبريطانيا «Libya allied Administration» ليس تبريراً أو تعليلاً منطقياً لقابلية ليبيا للتقسيم، فتبادل المستعمرين لا يعنى أن ليبيا قابلة للتقسيم، ولا يعتبر من مؤشرات التقسيم الطوعية، كاختلاف العرق والدين والطائفة. فليبيا البلد العربي، المجتمع فيه متجانس عربي مسلم، بل إن أصوله العربية في أغلبها تعود لقبائل بني سليم، فكيف يكون قابلاً للتقسيم لمجرد خلافات سياسية تتنوع بين مناطقها المختلفة شرقاً وغرباً وجنوباً.
ليبيا دولة غير قابلة للتقسيم. وهذا ليس كلاماً عاطفياً، فليبيا ليست دولة كنتونية، تشكلت من مقاطعات وكيانات مختلفة العرق والأصل واللغة، وهي تشكلت كغيرها من محيطها العربي تونس والجزائر ومصر، من القبائل العربية الموجودة في هذه الجغرافيا، ربطها تاريخ وتقاطع نسب ومصاهرة.
ليبيا منذ سنوات تعاني من أزمة وخلاف بين أطراف سياسية ليبية، وهذا يحدث في كثير من بلدان العالم، ولا أحد حاول ادّعاء النبوءة بتقسيمها، وكلما اشتد الصراع السياسي ظهر مَن هم خارج ليبيا ولا يعرفون جغرافيا ليبيا السكانية للحديث عن تقسيم ليبيا، وكأن ليبيا مجرد كعكة قابلة للتقسيم بسكين، في قراءة عوراء ترى الصورة مجتزأة، ولا تحسن مشاهدتها.
والحقيقة أن الصراع في ليبيا هو بين أطراف من مختلف أنحاء ليبيا، ولا يرضى أي طرف من هذه الأطراف بحكاية التقسيم مهما كان الأمر.
هناك طرف آخر أغلبه من الأجانب الوافدين إلى ليبيا بعد انهيار الدولة في 2011، يحمل أجندات مؤدلجة ومتطرفة كـ«داعش» و«القاعدة» وتنظيم «الإخوان»، ولا يؤمن بالجغرافيا الليبية وحدودها، بل إن مشروعه خارج حدود ليبيا، وهو مشروع عابر للحدود. لكن هذا الطرف لا محالة خاسر وسيدحر مهما كانت التضحيات، لأنه دخيل وليس له قاعدة شعبية.
ليبيا وطن، قبل أن يكون دولة ربطها تاريخ طويل من الانتماء القبلي والعشائري، ولمن لا يعرف معنى الانتماء القبلي، غير خيال داحس والغبراء والبسوس، فالقبيلة هي أقوى المكونات ارتباطاً بالأرض والذود عنها واستحالة التفريط فيها، وتزداد تعقيداً إذا شكّلت هذه القبائل دولة موحدة، ربطها تاريخ من الدم والنضال ضد المستعمر.
ولعل قراءة التاريخ الليبي وكفاح الأجداد ضد الغزو الاستيطاني الإيطالي، الذي جعل رجالاً في السبعين كعمر المختار والفضيل بوعمر وأحمد الشريف وعبد النبي بلخير والباروني وسعدون السويحلي يتصدون للغزو الإيطالي، وهم في قلة من المال والعتاد، كافية على تماسك هذا الشعب وحرصه على ترابه الموحد.
وتبقى القراءة العوراء للمشهد الليبي دائماً تتحدث عن تقسيم ليبيا، وتُصورها مجرد كيان هش قابل للتقسيم. الأمر الذي يعتبر إهانة مرفوضة من مجتمع وشعب عظيم كالشعب الليبي الكريم، كما وصفه الملك الصالح إدريس السنوسي: «نعلن للأمة الليبية الكريمة أن ليبيا أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة». إدريس الذي أسس ليبيا الحديثة بعزيمة الرجال الوطنيين، بعد تاريخ طويل لأكثر من 30 عاماً من الكفاح المسلح ضد المستعمر الإيطالي، الذي كان يرى في ليبيا الشاطئ الرابع لروما.
ليبيا دولة تأسست حديثاً على تاريخ طويل، مثلها مثل أي دولة في الشرق الأوسط، وليست هجيناً من الكنتونات مثل سويسرا أو كندا حتى الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل التي تعتبر قابلة للتقسيم بحكم التكوين الكنتوني. الأمر المختلف في ليبيا، الوطن المتكون من قبائل عربية ذات أصل واحد، يربطها العرق والأصل والجذر الإنساني قبل المكان.
قراءة المشهد الليبي ممن لا يعرفون ليبيا تاريخاً وجغرافياً وسكاناً وأنساباً، تضع صاحب القراءة في مأزق أخلاقي، بسبب الكتابة المنقوصة.