ليبيا صنيعة التدخل الخارجي ورهينته
سالم العوكلي
سبق أن كتبت عن السيادة الوطنية التي أصبحت مستهل كلام كل من يتحدث عن هذا البلد وليبيا، السيادة الوهم في بلد ــ كغيره من البلدان التابعة وجوديا ــ كل ما يتعلق باستمرار سكانه على قيد الحياة يأتي من الخارج ، مقابل نفط تنتجه وتكرره شركات من الخارج، ومشاريع تقيمها شركات من الخارج ، وكل المشاريع الإستراتيجية خرائطها في الخارج بما فيها مشاريع متعلقة بالأمن القومي .
الآن تظهر لافتة جديدة مضحكة مختصرها (نرفض التدخل الخارجي في ليبيا) ويمضغ هذه اللافتة محليون يدركون أن هذه الأرض، ومنذ قرون، تدار عبر تدخلات من الخارج وحتى يومنا هذا، ويمضغها أجنبيون يدرك معظمهم أنهم لم يتوقفوا عن التدخل في ليبيا وتحديد مصائرها منذ عقود طويلة ولا ندري إلى متى يستمر هذا القدر الخارجي .
بصرف النظر عمن عبروا أو حكموا هذه الجغرافيا، قبل أن تكون دولة، من إغريق ورومان وفينيقيين وفرسان القديس يوحنا وإسبان وغيرهم ، سنبدأ منذ أن كانت مستعمرة عثمانية وولايات تابعة للباب العالي التركي، حيث أدارها الأتراك لأربعة قرون، بما فيها من دويلات منشقة عنهم، وطيلة هذه الفترة كانت مجرد مكان للجباية وحَلْب الخراج من سكانها المعدمين، أو شواطئ للقرصنة البحرية وتجارة الرقيق.
بعد هذه القرون سلّم الأتراك ليبيا للإيطاليين الذين حددوا حدودها السياسية لأول مرة، ووحدوها تحت سلطة مجنون روما موسيليني بعد أن فتك الفاشيون بنصف سكانها تقريبا، ثم جاء الحلفاء ليطردوا هذا المستعمر الذي انحاز لقوات المحور، وأدارت الإدارة الإنجليزية البلد كيفما ترى إلى أن نصبّت الأمير إدريس على برقة ثم ملكا على كل ليبيا، وطيلة هذه الفترة التي تحصلت ليبيا فيها على استقلالها ــ بعد تدخل المجتمع الدولي وإجهاض مشروع بيفين سفورزا الذي قسم ليبيا إلى ثلاث أقاليم تتبع بريطانيا وإيطاليا وفرنسا ــ ظل القرار الليبي مرهونا بهذه القوى التي أجّرت مواقع لقواعدها من أجل توفير ما يسد رمق الليبيين الخارجين فقراء أميين تتفشى بينهم الأوبئة بعد أربعة قرون من حكم الأتراك و32 سنة من حكم الطليان. أرادت هذه القوى أن تكون ليبيا فيدرالية في بدايتها ومع اكتشاف النفط ضغطت الدول التي لها شركات نفطية في ليبيا من أجل تعديل الدستور وتوحيد البلد، وظلت ليبيا تنازع قرارها الداخلي بعد أن تمتعت بهذا الدخل الذي حررها بعض الشيء من الارتهان للقواعد الأجنبية، ومع خروج رئيس وزراء ومحامٍ مثقف، عبد الحميد البكوش، له مشروعه التحرري من التبعية، نادى علنا بالهوية الليبية والشخصية الليبية واستقلالية الأمة الليبية كما وصفها، لم يبق في منصبه سوى 10 شهور أمام نبرة قومية عالية كانت ترى في مشروعه الاستقلالي خيانة وردة عن هذا الدين القومي الجديد الصادح بقوة في المنطقة عبر زعيمه ناصر، وعبر خطاب إذاعاته الذي يصدح في كل بيت في ليبيا . استقال أو أُقيل البكوش وانتهى مشروعه حيال الهوية الليبية ونُفي سفيرا في فرنسا، وبعد سنوات قليلة جاءت عملية (بلاك بوت) الاستخباراتية الشهيرة بانقلاب عسكري وضع ضباطا صغارا لا يعرفهم أحد فوق سدة بلد أدرك العالم الثروات الكامنة فيه.
في حوارات أجريناها لجريدة ميادين مع بعض (الضابط الحر) عبدالفتاح يونس، وعضو مجلس قيادة انقلاب 69 (عبد المنعم الهوني، اتفقا على رواية تؤكد هذا التدخل الخارجي فيما سمي (ثورة أول سبتمبر) حيث تقول الرواية التي ترصد يوم الاستيلاء على إذاعة بنغازي وبث البيان الأول، أن الضباط بما فيهم القذافي اجتمعوا في معسكر قاريونس ليباشروا عملية الاستيلاء على مقر إذاعة بنغازي، كتبوا البيان، واتفقوا أن يخرجوا بسياراتهم ويتخذوا الطريق المتفرع إلى اليمين المار بمعسكر البركة، ووصلوا الإذاعة واستولوا عليها ليكتشفوا أن القذافي في سيارته الفولكس واجن لم يكن قد وصل، وحين وصل أخيرا سألوه عن سبب تأخره، وأنه ارتبك في الإجابة وقال في البداية إنه أخطأ الطريق عند المفترق وتوجه يسارا، ثم استدرك وقال: إنه عاد إلى معسكر قاريونس لتنقيح نص البيان الأول الذي قرأه في ذلك اليوم واستمع له الليبيون دون أن يعرفوا ما الذي حصل، فلم تكن ثمة أي بوادر لهذا التغيير المفاجئ الذي تم في يوم وليلة دون أن تسيل قطرة دم، ودون أن تحدث أي مقاومة من قبل نظام يملك قوة اسمها القوة المتحركة كانت أقوى تدريبا وتسليحا من الجيش في ذلك الوقت . المهم يقول رفاق القذافي السابق ذكرهم أنهم عرفوا فيما بعد سر تأخر القذافي عن حضوره إلى الإذاعة حيث عرّج بسيارته الزرقاء على القنصل الإنجليزي وعرض عليه البيان، واكتشفوا أن تدخل القنصل البريطاني في البيان الذي كتبوه معا مختوما بعبارة “ها قد دقت ساعة العمل فإلى الأمام” تمثل في إضافة السطر الأخير المقحم في البيان والمختلف عن نبرته الحماسية والذي نصه “وإنه يسرنا في هذه اللحظة أن نطمئن إخواننا الأجانب أن ممتلكاتهم وأرواحهم سوف تكون في حماية القوات المسلحة، وأن هذا العمل غير موجه ضد أي دولة أجنبية أو معاهدات دولية أو قانون دولي معترف به وإنما هو عمل داخلي بحت يخص ليبيا ومشاكلها المزمنة”. وهذا العلم من قبل بريطانيا بالانقلاب بل والتدخل في صياغة بيانه الأول ما يؤكد تلك الكلمات الحادة التي وجهها الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز للقذافي في مؤتمر القمة العربية المنعقد في مصر العام 2003 وقوله: مين جابك للحكم أنت؟ والمعروف أن كل الحكام العرب يعرفون أسرار بعضهم البعض.
وهذا الرواية التي تواترت عن طريق شهود شاركوا في الانقلاب، لم يكونوا معا حين أجريت معهم اللقاءات، تؤكد هذا التدخل الخارجي في صميم التغيير الذي حدث في ليبيا وحولها من ملكية إلى جمهورية، وحيث كان المسيطرون الجدد على السلطة في ليبيا ضباطا صغارا، في الرتب وفي السن، ولم تكن لديهم خبرة، بعثت مصر ضباط استخباراتها ليكونوا مستشارين لهم، وعلى رأسهم فتحي الديب الذي أدار البلاد لمدة سنة على الأقل، وكان دائما ينصح أعضاء الانقلاب بأن لا يرتكبوا الأخطاء التي ارتكبتها الثورة المصرية. ووفق هذا المبدأ كان وراء القبض على الضباط الكبار المشاركين في الانقلاب والتخلص منهم والذين كانوا ــ على غرار محمد نجيب في مصر ــ يطالبون بتسليم السلطة لحكومة مدنية والشروع في صياغة دستور للبلد.
بعد تمكن هؤلاء الضباط من السلطة ومع موت ناصر بدأت البلاد تنحو منحى جديدا كان التسليح الذي تذهب إليه 70% من ميزانية الدولة هو المتن، وكان صراع القوى الكبرى على النفوذ داخل ليبيا على أشده منذ أن طالب الاتحاد السوفياتي بنفوذ في ليبيا، في مؤتمر يالطا، باعتبارها تركة الإيطاليين الذين قاتلوا مع النازية الجيش الأحمر، وباعتبار بداية أفول الإمبراطورية البريطانية، كانت أمريكا هي البديل لمواجهة هذه الطموح السوفياتي في ليبيا، حيث تحكمت فترة الملكية في الكثير من القرارات وفي حصة الأسد من النفط وأصبحت لها الحظوة، ما أزعج بريطانيا التي خلصت ليبيا من الاستعمار الإيطالي ونصبت الحكم الملكي فيها ثم خرجت من المولد بلا حمص، وكان تدبير عملية بلاك بوت في ردهات المخابرات الإنجليزية التي جاءت بالقذافي ونظامه، لكن القذافي الذي كان يقلد عبد الناصر في كل شي ــ بما فيها استعارة علم دولته مصر ونشيدها الوطني لتكون رموز الدولة الليبية الجديدة ــ اتجه مثلما فعل ناصر إلى رفع راية الإشتراكية والتركيز في علاقاته الإستراتيجية الاتحاد السوفياتي الذي كان في ذروة قوته، و ملأ الأرض الليبية بترسانة أسلحته القديمة مقابل المليارات.، بينما القذافي تدخل في كثير من الحروب الأهلية في العالم عبر دعمه للحركات اليسارية نيابة عن الاتحاد السوفياتي باعتبارها حركات تحررية.
وطيلة أربعة عقود كانت هذه القوى تتلاعب بالسلطة في ليبيا التي كل مرة تنحاز إلى طرف لمراوغة عواصف التغيير ولتبقى في السلطة، وأمام الضغوط قفلت كل مكاتب فروع المقاومة الفلسطينية وسلمت مجانا البنية التحتية لمشروعها النووي إلى الولايات المتحدة لتنقذ الرئيس بوش من جريمة تدميره للعراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل لم تجد منها شيئا، حيث قال بوش لم نجده في العراق لكنه جاءنا من ليبيا وهذا يجعل الحرب مبررة.
ما جعل الشاعر ارحيم جبريل يقول وقتها في قصيدة لا يعرفها إلا القريبون منه: “ما عد هناك أطعمة … صدام اتمسك فتشوله فمه .. والصقر سلّم . ما عاد هناك مهابة … صدام فتشوله لحيته وأشنابه … وحتى معمر دايرين حسابه … نقة عدوك كان جوا لترمه… ماعد هناك طعايم …زروا اللي نافر أصبح رايم … يا شعبنا تفٌوا ع الوجوه نخايم …علي اصقورنا تمن طيور ارخمه.”.
يقصد ــ في تهكمه على زعماء سميناهم الصقور طالما صدعونا بالخطابات النارية عن السيادة وعن الوطنية وعن عدم التدخل الخارجي ــ يقصد أن صدام فتشوا فمه وربما سيفتشون مؤخرة القذافي يوما ما. قيلت القصيدة حين القبض على صدام ومن ثم تسليم القذافي لمشروعه النووي دون شروط، أي قبل 8 سنوات من الربيع العربي، وكأنها كانت تحمل نبوءة، ويزخر الشعر الشعبي المتهكم بكل ما يدل على أن ليبيا مازالت رهينة التدخل الخارجي رغم الخطابات النارية، ومازالت الدول التي أوجدتها على الخارطة السياسية للعالم تتحكم في أمورها. أما ما حدث من تدخل في انتفاضة فبراير وبعدها فواضح للجميع، ومازال على قدم وساق، ومطالبة هؤلاء الذين حددوا مصير ليبيا أكثر من مرة بعدم التدخل الخارجي مضحك للبعض ومبك للآخر . والغريب أن القوى الدولية والإقليمية، والرأي العام في ليبيا دائما ما ينتقد دول حلف الناتو على تخليها عن ليبيا بعد سقوط النظام، ويعتبرون عدم التدخل هذا هو سبب كل المآسي التي حدثت، وفي الوقت نفسه يطالبون بعدم التدخل في الشأن الليبي الذي كان طيلة تاريخ هذه الجغرافيا شأنا دوليا تديره وتخطط له تلك القوى وأشباحها.