ليبراليون متعصبون
طه البوسيفي
اتخذت الليبرالية منذ نشأتها في عصر التنوير_ كردة فعل على ممارسات تضييق تحت مسميات مختلفة على رأسها الدين _ اتخذت أشكالا متعددة ودخلت في مناحي الحياة عامة، فهنالك ليبرالية سياسية تتمثل في حق المشاركة في اختيار الحاكم على اعتبار أن الأمة مصدر السلطات ومن حقها نبذ الأنظمة الديكتاتورية بل اقتلاع جذورهم لأجل نبتة الديمقراطية الليبرالية التي تمنح الحرية وتمنح التداول السلمي على السلطة وتمنع احتكار أنظمة القمع لرأي الشعوب وحقهم في تقرير مصيرهم.
ثمة أيضاً ليبرالية اجتماعية تتفاعل داخل المجتمع، تتجسد في قيم التسامح والتعاون وقبول الآخر المخالف لأقصى درجة، وإن كان هذا الخلاف أصولياً لا فرعياً دام سلميا لا ينتهج العنف للتغيير، هنالك ليبرالية دينية كذلك لا يقيم معتنقوها علاقاتهم على أساس ديني أو طائفي، فالكل أخوة في الإنسانية، أما الدين برسالاته الربانية فلا يعدو كونه شيئا شخصياً بين المرء وربه، أما ماهية الرب وشكل الطقوس ومسالك التعبد فهي مسألة ترجع للديانة المعتنقة نفسها دون احتكار الشكل الواحد ورفض بقية الأشكال لأنها_ أي المسألة_ تبقى رهينة العقل والفلسفة والأفكار التي رصت في الأدمغة..
ولدت الليبرالية من رحم العنف والتضييق والإقصاء، ولدت من ممارسات شوهت المجتمعات التي أرادت تلك الفترة أي في مرحلة التنوير الأوروبي جرعة جديدة ومساراً انفتاحياً متعدد الرؤى والأفكار والتوجهات، هذا المسار يمنح فضاءً رحباً يجعل من الفرد الذي لا يتفق مع فكرة مقابله مستعداً لدفع حياته من أجل أن يعبر الذي يقابله أو يخالفه عن وجهة نظره بحسب تعبير فرانسوا فولتير أحد أساتذة وعرابي التنوير، الشخص المتسامح صاحب الرسالة الخالدة في زمن التعصب والتمذهب والاقتتال بين الكاثوليك والبروتستانت ..
مرت قرون مذ نشأة مفهوم اللبرلة، تطور كثيراً، أخذ أشكالا كثيرة أيضاً، نظَّر له الكثيرون وعقدت لأجله المناظرات وأسيلت الأحبار وبيضت الصحائف، كل ذلك من أجل ترسيخه وتأكيد فعاليته حتى وصل بالبعض أن اعتبر أن الليبرالية هي أقصى ما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في رحلة الأنسنة بتعبير فوكوياما .
لكن ما هو غريب حقاً أن تأخذ الليبرالية شكلاً قبيحاً ينافر أصل نشأتها ويخالف أركانها وقواعدها التي تكونت عليها وازدادت عمراناً وقدماً ، وقداسة كذلك، ففي مجتمعاتنا ثمة متنورون متعصبون، يلجأون للبلوك عبر فيسبوك لمجرد أنك قلت ما يعكس توجهاتهم، يقصون أجنحة تغريدتك لأنم يعتبرونها تلصصت واسترقت السمع من نافذتك المشرعة على فضاء تويتر، ثمة كذلك متنورون متعصبون يقطعون أواصر القربى مع مخالفيهم لمجرد أنهم تفوهوا به، التوفه معتقدين أنهم جلساء تنويري لا موانع لفكره ولا سيف بيده ينزله على فكرة خضراء تتنفس في طرود جرداء ظنتها مروجاً خضراء وبساتين لوز ..
أحياناً وفي غفلة من عقلي أسمح لعاطفتي بأن تتأجج وأن تلتمس الأعذار لهؤلاء ، فأقول في سكينة سري بأن الليبرالية نبتةٌ غريبةٌ في صحرائنا ، ما تزال تبحث عن جو ملائم، عن هواء طري، وتربة مسمدة .
التعصب من حيث هو يعرف بأنه انغلاق للعقل، وهذا وحده ينافي البتة أبسط ما مفاهيم الليبرالية ومقاصدها مفهوماً وعملاً ويعكس نظرة دوغمائية تتسربل باللبرلة وتنتقي ألفاظها اللامعة لتواري سوءة خوار العقل .
قد يكون هذا المتعصب مشبعاً بمفاهيم الانفتاح لكنه حين التطبيق يستحيل فرداً آخر، يصطدم بموانع بعضها يتعلق بالنشأة، وبعضها بالنعرة، وبعضها بالعصبية المقيتة لا الحسنة كما نظر لها ابن خلدون في مقدمته والتي كانت تعني التضامن .
التطبيق هو التعقيد، هكذا عبر الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار في نقده لأفكار المؤسس رينيه ديكارت، باشلار أكد الهوة الموجودة دائماً بين التنظير الذي قد يبدو لذيذاً والتطبيق الذي هو الاختبار الأقسى الذي تسقط فيه كثير من الأقنعة.