ليالي السقوط: من بغداد إلى طرابلس
سالم العوكلي
في إحدى الليالي المفصلية في التاريخ سمعت طرقا خفيفا على باب بيتي – القابع في مدينة درنة الواقعة بشرق ليبيا ـ فتحت الباب ، فكان الشاعر العراقي خزعل الماجدي، المحاضر آنذاك في التاريخ القديم بجامعة درنة، بدا وكأنه شخص لا أعرفه، نظر إلي بعينين فيهما حزن العالم وارتباكه ولم يستطع الكلام، مسكت بيده وأدخلته كطفل تاه عن بيته، جلس على أقرب كرسي وأجهش ببكاء حارق، وكانت تلك ليلة سقوط بغداد، وما بيننا كان حديث أقرب للنجوى يتعثر في كوابيس التاريخ كلما حاول أن يفتح كوة للأمل. لم يحدثني عن عائلته الموجودة في قلب الخطر بمدينة النجف، ولا عن بيته في أطراف بغداد، ولكن عن كارثة نهب التاريخ العراقي المنقولة على الهواء مباشرة، وعن الغزاة الذين أحاطوا بينابيع النفط ليحموها وتركوا روح العرق وأساطيره نهبا للصوص، عن القطع الأثرية والمخطوطات التي قضى بينها معظم أوقاته وهي محمولة على الأكتاف مع قطع الأثاث، عن العراق الذي تُنزع روحه بضراوة.
في اليوم التالي كتبت له هذه الرسالة.
الصديق العزيز: خزعل
تعلمنا أن نحلم فقط، وأن نتوهم عالماً جميلاً، طاردنا المفردات الضالة، وهمسنا أرواحنا في أذن المدن الخرساء .. عيوننا مغروسة في عتمة الورق، وأقدامنا مسترسلة في دروب لا نعرف إلى أين تفضي .. البرد شديد في هذه الصحراء القائظة، الشرفات خالية، والطغاة يولدون كل يوم بيننا وبين الشمس .. لا ضمير في هذا الكون، أو عدالة، تسمح بان تبقى هنا وحيداً في ليل درنة الموحش، والقنابل الغبية والذكية تهدد زوجتك “أحلام” وأولادك. ما معنى الأسرة حين لا تلتف لحظة الخوف؟ وما معنى الوطن الذي لا ترث من أرضه سوى حقيبة تتسكع في المنافي؟. إن الخضارة برمته لا تساوي لحظة رعب في عيون الأطفال. أسألك : هل كانت الأرض جميلة يوماً ما وأنت المبحر بشغف في تاريخها وأساطيرها الملهمة؟ والطالق قصائدك الجاسرة في كل اتجاه؟ هل كانت السماء مختلفة؟ ومن أين جاء هذا الخراب ؟ كيف يحدث أن تأتي دولة عمرها من عمر الديناميت لتعلم شعباً بعمر التاريخ كيف يكون حراً؟ أين ذهب تاريخ العراق العظيم؟ وكيف استطاع رجل مغامر أن يجعله مائدة لذباب الأرض؟.
الشيخ العراقي الذي قال: “كلهم كذابون .. صدام وبوش والحكام العرب، ونحن شعب متعب”، بكى بعد لحظات وهو يقول: الأجنبي يدخل يده تحت ثياب نسائنا ليفتشها ونحن نتفرج. لاشيء أشد وطأة من مشهد الدموع اللامعة في اللحية البيضاء، لاشيء أشد ألماً من رؤية طفل عمره ثلاث سنوات يرفع يديه أمام كلاشنكوف .. هل كانت أسلحة الدمار الشامل داخل ثياب القرويات المحناة أقدامهن بطمي الفرات؟
اعترف أني رأيت ظلال الهزيمة المرة في عينيك تلك الليلة، الجميع نائمون وأنت وحدك لا تنام، تدفع ثمن أن تكون شاعراً، وألم أن تكون واعياً بما سوف يحصل ، تدفع ثمن عشقك الهستيري لتاريخ هذه الأرض. قلت لأصدقائي بعد أن خرجنا من عندك مرة أثناء الحرب على العراق : إن خزعل ليس مجرد مواطن عراقي يخاف على أسرته وأصدقائه تحت القصف ، لكنه مسكون حتى النخاع بأساطير العراق وملاحم العشق المنقوشة على ألواح طينها، تاريخها ليس في رأسه فقط لكنه في دمه وخلاياه ، وروحه ممتدة في هذا الإرث الحميم ، لذلك فجيعته أكبر، فمع كل انفجار تتطاير شظايا روحه ـ وأنا ربما أكثر من يعرف أن هذا ليس تعبيراً مجازياً ـ لأنني كثيراً ما المح البريق في عينيك وأنت تتحدث عن تاريخ العراق.
خزعل .. حذار من الانكسار، لأن هذا حدث لأمم أخرى وفي التاريخ القريب .. حدث لليابان ولألمانيا، ولكنها أمم نهضت من جديد مثل طائر الفينيق، وهاهي تأخذ مكانها العادل في العالم، والآن، القادم رهن بالشعب العراقي العريق، وإن لم ينهض من هذه المحنة فإنه لا يستحق هذا التاريخ .. كنا قديماً نعالج الآلام في داخلنا بالكي الموجع، وربما نحن نحتاج إلى مثل هذه الكارثة كي نصحو .. هل أحاول أن أسرب في داخلك قليلاً من التفاؤل، لا أعرف، ولست ادعي هذه الشعوذة، لكنني أحاول أن أفكر بصوت مكتوب أحاول أن أصحو من هذا الكابوس .
كأني هذيت يوماً : “نأسف لقتل الأطفال لأنهم ولدوا في الزمن الخطأ .. الحرب نظيفة .. النيران صديقة .. القنابل ذكية .. والضحايا هم الأغبياء .. نأسف لأشلاء الأطفال الذين وجدوا في المكان الخطأ”.
عبر هذه الرسالة الغافية في أرشيفي تذكرت ليلة دخول مقاتلي المجلس الانتقالي لطرابلس تحت غطاء جوي من الناتو، تلك الليلة التي سماها الإعلام المتواطئ “ليلة سقوط طرابلس” والتي حرص المديرون لهذه الحرب، من داخل وخارج ليبيا، أن توافق ذكرى فتح مكة، نفسها القوى التي أسقطت بغداد أسقطت طرابلس، وعم الفرح مدن ليبيا الثائرة التي كانت ترفرف في ميادينها أعلام دول حلف الناتو. لم أكن ليلتها حزينا على سقوط طرابلس مثل حزن صديقي الشاعر العراقي، ولم يكن أحد حزينا، لأننا كنا نعيش وهما كبيرا بكون ليبيا ليست العراق، وبكون القوى التي دمرت العراق قد أخذت الدرس ولن تترك ليبيا للمصير نفسه، وبكون أوباما الأكحل مختلفا عن بوش الأصهب، وبكوننا كليبيين أصحاب العيون السود والعسلية، تساعدنا هذه القوى من أجل سواد وعسل عيوننا.
ما حصل قد حصل، لكن أيضا، القادم رهن بشعبنا الذي وضع مصيره في لحظة وجد ثوري في يد اللصوص والقوادين من الداخل والخارج. رهن بنا لنعطي بظهرنا لمن لا يروا في أرضنا سوى مضخات النفط، ونستعيد المبادرة والقرار بيدنا.. رهن بنا حين ندرك أن المصالحة الوطنية هي المخرج الوحيد من لعبة الشطرنج التي يحرك العالم بيادقنا على رقعتها.