لا تردوا إلينا بضاعتنا
“تارّانت” ليس استثناء
فرج عبدالسلام
ما تزال مذبحة المسجديْن في كرايستشرش تشغل بال الكثيرين في هذا العالم، وصارت محل بحثٍ وتأويلٍ لوسائل الإعلام والسياسيين. دُبّجت مقالات، وألقيت خطبٌ مؤثرة وحماسية، تعبّر عن الأسى والصدمة لما جرى من إرهابٍ وفعل يُفترض أنه لا يمت للإنسانية التي نعرفها. ولا توجد كلماتٌ تصف هذا الفعل القبيح بحق مسالمين عزّل يعبدون ربهم في أمان، أو هكذا ظنوا. وبالرغم من أن هذا الفعل ليس بجديد في حق المسلمين. فلطالما استُهدفت قبل ذلك أقلياتٌ وخاصة المسلمة منها. وما تزال مذابح سريبرينيتسا في البوسنة منذ عقود ثلاثة، وأقلية الروهينجا، بأيدي عنصريين، شاهدا على بؤس تدبير الإنسان وتشوّش أفكاره عندما يسيطر عليه التعصّب الهويّاتي.
يتطرقُ “أمين معلوف” في كتابه الرائع “الهويّات القاتلة” إلى مسألة غاية في الأهمية. وهي البحث في ما يُحدد هويّة إنسان ما، ومحاولة فهم الأسباب التي تدعو الكثيرين إلى القتل باسم هوياتهم القومية والدينية، وغير ذلك مما يشكّل الهوية. ويتعلق الأمرُ بأشخاص يحملون في أعماقهم انتماءات تتصادم اليوم بعنف، وتخترقهم تصدعات إثنية ودينية، وأنّ هؤلاء يجدون أنفسهم مضطرين على الدوام لاختيار معسكرهم، مهما بدا شاذا ومتطرفا. وبالتالي يكون المهووس تارانت قد اختار معسكره، عن طريق التصوّر الضيق، والمتزمت، والتبسيطي الذي اختزل الهوية في انتماء واحد، قام بالدفاع عنه بضراوة.
يصل “معلوف” إلى الاستنتاج البدهي، وهو أن هويّة الإنسان في حالِ تحوّلٍ، فالبيئة التي يمر بها هي ما تحدّدُ معنى الانتماء. ولو وُلد الأسترالي المضطرب تارانت، في حي بوزغيبة في بنغازي مثلا، لحمل اسما إسلاميا بالطبع، وربما هو من ارتقى منبر الجامع ليطلق الفتاوى التحريضية والتكفيرية ضد فئات ومكونات المجتمع، وليصف الحركة الكشفية بأنها دخيلة من الغرب، يُقصدُ بها تقويض المجتمعات المسلمة الفاضلة، ما يجعلها في خانة أقرب إلى فسطاط الكفر. أو ربما رأيناه، بهُوية مغايرة في بنغازي أو سرت أو درنة، خلال سنوات الجمر، يرفع يده بكل بلادة تاريخية معلنا أن الدولة الإسلامية باقية وتتمدد، أو ربما شارك في الهجوم التّتاري على مرسم الفنان محمد بن الأمين في مصراتة، وحرق كتبه ولوحاته، أو أنه قام مع رهطه المهووسين بمهاجمة الأضرحة ونبش القبور الأثرية. الأمثلة تطول، لكن تارانت لم يكن إلاّ ما هو عليه، فدفعته (هويّة الصدفة) إلى ارتكاب جريمته، مُمهدا لها بمانفستو ممجموج يستذكر فيه صراعا إسلاميا مسيحيا انقضى منذ قرون، وليُسقطه على الوقت الراهن.
ما أخلصُ إليه هنا أنّ ما قام به تارانت ليس بجديد، فهو ابن شرعي للفكر الفاشي المتعصب في الغرب. لكن الفارق هنا هو انتماؤه إلى هوية مختلفة، كما ألهمه عقله المضطرب بتصوير فعلته، وكأنه يمارس لعبة إلكترونية.
لكن لماذا نتعامى عن الواقع ونصرّ على تغطية عين الشمس بغربال مثقوب، فقد رأينا مرارا وتكرارا مسلمين يفجرون مساجد مسلمين غيرهم من الطائفة الشيعية، ويقتلون أعدادا أكبر من الأبرياء، فلا يلقى ذلك منا سوى الأسف (أحيانا)، وشاهدنا التنظيم الإرهابي يذبح الأقباط المصريين باسم الإسلام، ويحرص على تصوير الحدث بتقنية عالية، أكثر مما استخدمه تارانت، ورأينا مرات عديدة موجات دهس للأبرياء في مدن الغرب بالمئات، دون أن نفعل شيئا سوى الصراخ الأجوف، والإدانات الخجولة. وربما شارك بعضنا في تبادل تلك المناظر التي تعافها النفس السوية. ولن نُسهب في فضيحة القرن عندما بيعت سبايا الإيزيديات في سوق النخاسة، ليجد هذا الفعل الفضائحي فتاوى جاهزة تبيحه شرعا وقانونا. كما رأينا الشر الأكبر الذي تمثّل في ما سُمي بغزوة نيويورك، التي أزهقت أرواح ألوف الأبرياء، وجلبت الدمار إلى فسطاط الإسلام.
أختتمُ بالقول إن تارانت ليس فريدا في الإجرام، وإن بين ظهرانينا من يفوقونه شرّا، ولو وجدوا سبيلا لقاموا بأفعال يندى لها الجبين، ضد بني جلدتهم.
علينا مواجهة النفس، والبحث في مكنون صدورنا، وفي تاريخنا المشوّه الذي يلقي بظلاله القاتمة علينا، والتوقف عن تصدير بضاعتنا الفاسدة إلى الآخرين، حتى لا نفاجأ بردّها إلينا بشكل وحشي، كما حدث في نيوزيلندة.