كيف ضلت شركة «توماس كوك» الطريق
ليونيد بيرشيدسكي
يلقي الناس باللائمة في إفلاس مجموعة شركات «توماس كوك» التي يعود لمؤسسها الفضل في اختراع صناعة السياحة الحديثة إلى «بريكست» على سلسلة من القرارات الإدارية الخاطئة وتراكم الديون. ومع ذلك، فإنه يمكن النظر إلى فشل «توماس كوك» باعتباره بداية النهاية للنموذج السياحي الذي ساعدت الشركة على إنشائه.
إن صعود «توماس كوك» من مرحلة تنظيم «رحلات» بالقطار لعملائها في بريطانيا إلى ما كان يعرف «كوك باشا» – الاسم المتعارف عليه في مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تهيمن عليها بريطانيا.
نفذ الواعظ المعمداني كوك، مدفوعاً بفكرة صرف انتباه البريطانيين عن الشراب، فكرة زيارة أماكن ورؤية مزارات مع عدم مغادرة مناطقهم التي طالما وجدوا فيها راحتهم. وبحسب مقال نشره روبرت هانتر، حفيد مؤسس الشركة في مقال نشر عام 2004 بعنوان شركة «توماس كوك وابنه»، فقد توصل كوك إلى مفهوم لا يزال محورياً في صناعة السياحة الذي يعتبر المحور الرئيسي لهذا الهيكل الجديد ألا وهو «المنتجع السياحي».
كلمة «منتجع» تعني في الأساس المكان المخصص للسياح، ويمكن أن تكون مواقع ذات مناظر خلابة رائعة وقد تقع في الجبال أو على طول السواحل. وباتت عيون وآبار المياه المعدنية التي كانت مخصصة للمرضى فقط مناطق جذاب للسياح.
يحتوي المنتجع على مجموعة متنوعة من أماكن الإقامة الموجهة إلى مستويات دخل مختلفة، منها أصحاب المعاشات وراغبو الإقامة في الفنادق والفنادق الكبيرة التي تضم مئات الغرف. غير أن المنتجعات الأكثر شعبية تضم أنواع الإقامة الثلاثة، مع وجبات الطعام وغيرها من الخدمات. قد تضمن المنتجعات أيضاً متنزهاً أو منطقة للتنزه (مثل رصيف الميناء في برايتون البريطانية) التي يعمل بها جيوش من العمال الذين جرى توظيفهم لتوفير الخدمات للنزلاء، منهم النادلون والطهاة والممرضات والأطباء والمرشدون السياحيون وغيرهم لنقل الركاب بسرعة من منازلهم إلى المنتجعات والعودة مرة أخرى. هنا ظهرت شبكات الشركات السياحة التي تمتلك السفن البخارية، وتتعاقد مع خطوط السكك الحديدية ووسائل النقل الأخرى ومجموعة كبيرة من الوكالات والمكاتب الفرعية. تم إنشاء وكالات سياحية بها موظفون ولها جداولها الخاصة، وابتكر المروجون «مواسم» سياحية ذات فترات ثابتة تراعي أكثر الأوقات ملائمة للسفر.
أطلق الباحثون على هذا الاختراع اسم «السياحة المحصورة» التي كانت تجري داخل مناطق مغلقة. ظهر بعد ذلك نوع جديد من السياحة إلى مختلف المواقع «الغريبة» التي تنطوي على المغامرات والتي يمكن تنظيمها خارج المنتجع بحيث يتفاعل السياح مع مناطق الزيارة، فيما عرف باسم «السياحة المتكاملة»، التي يختلط فيها المسافرون مع المجتمعات التي يزورونها، وهو ما طرحه وليد حزبون الأستاذ بجامعة ألاباما في عام 2007 عندما قال إن هذا النموذج جعل «من السهل توسيع نطاق السياحة والسفر إلى أقاليم جديدة غير مألوفة رغم التطوير القليل في المنشآت السياحية. فقد جعلت السياحة المتكاملة من السهل الاستغناء عن البنية التحتية التي تطلبها السياحة المحصورة بمكان واحد».
استقر توماس كوك على ذلك النطاق الأخير المتكامل ووسع من نطاق أعماله ليشمل المناطق التي غزتها الإمبراطورية البريطانية وسيطرت عليها، مثل مصر والسودان. كان السكان المحليون في كثير من الأحيان معادين للأوروبيين، وخاصة الإنجليز، ولم يكن للإمبراطورية ولا للملوك والشيوخ المحليين أي مصلحة في بناء بنية تحتية ذات جودة أوروبية ليستخدمها الجميع. لذلك قام منظم الرحلة ببناء ذلك بنفسه.
وفي هذا الصدد، كتب الصحافي البريطاني جورج وارنغتون مدعياً، خلال فترة الاحتلال البريطاني لمصر، «هذه الحمير دفع ثمنها كوك، وهذه الأرض زرعها كوك بنبات الخس، وحتى هذه الطيور جلبها كوك، وتلك القوارب المقيدة على الضفة بناها شيخ لخدمة السياحة بأموال كوك». بهذه الطريقة، أنشأ كوك عوالم بأكملها تعتمد على أماكن وثقافات دعمت أعماله. لا نزال نسافر إلى هذه العوالم عن طريقه حتى اليوم. ووفقاً لجمعية «صناعة السياحة في المملكة المتحدة» ((ABTA. في عام 2018. قام 49 في المائة من البريطانيين الذين يسافرون إلى الخارج بشراء جولة سياحية كاملة، والسبب في ذلك أنهم يرون أن ذلك النظام راعى الاعتناء بكل شيء، ولأنها رخيصة نسبياً.
ولكن حتى دون وجود «الحزمة المتكاملة»، فإن العديد من المسافرين ينتهي بهم المطاف في منتجعات حسب تصور كوك لأن المنظومة السياحية بأكملها، بدءاً من المطارات والإقامة وفرص الاستكشاف الثقافي والمرح مع الأطفال باتت جميعها مصممة وفق هذا النموذج.
لكن دعونا لا نخدع أنفسنا، فقد اعتقدت شركة «توماس كوك» نفسها أن نموذج السياحة المحصورة سيكون خالداً، لكن الحقيقة الأمر هي أن مفهوم السياحة كان يتطلب خدمة كل جيل بما يروق له بتقديم حزمة الخدمات التي يتطلع إليها. ففي تقرير لها عام 2019. كتبت الشركة عن تحول في الطلب من الإجازات المليئة بالكحوليات والموجهة نحو الحياة الليلية إلى الاعتناء بالعملاء الذين تقل أعمارهم عن 35 و«اليوغا» بجانب حمام السباحة، وتقديم الأطباق المغذية والكوكتيلات الحديثة. لكن الواقع يقول إن هذا لم يكن كل شيء. وكتبت الشركة في تقريرها كذلك أن جيل الألفية (الذين تتراوح أعمارهم بين 18 – 35 عاماً) يرغبون في الاعتناء بأجسادهم.
ورغم ذلك، فقد تعامل توماس كوك مع الاتجاهات الحديثة للأجيال الجديدة على أنها بدع. فقد أدركت الشركة أن السياح الجدد يتطلعون إلى تجارب «إنستغرامية» (تعتمد على انتقاء مناطق للتصوير لبثها فوراً للأصدقاء عبر تطبيق إنستغرام) ووعدت بأن تفي بهذا المتطلب. كذلك يريد السياح اختيار مناطق محلية فريدة. بالفعل انتعشت إشغالات الفنادق بمختلف أنحاء العالم لتلبيتها الاتجاه الجديد، ولأن البساطة ورفض الاستعمار من قبل سكان المستعمرات القديمة لا يمكن اعتباره بدعة بحال.
يجب النظر إلى فشل «توماس كوك» على أنه نهاية عهد، وليس فقط على أنه جاء نتيجة لفشل في الإدارة أو سوء في اختيار مقار في دول ما كان من المفترض الوجود بها.
لكن الإنترنت، حتى في البلدان الفقيرة، جاء ليجعل السياحة والوصول إلى المقاصد سهلاً، حتى بالنسبة لشخص نشأ في الغرب وأصبح الوصول أسهل من أي وقت مضى، وبات العثور على سكن مهمة سهلة عبر الإنترنت. لذلك بات العالم لا يتماشى مع صناعة السياحة كما اخترعها توماس كوك في القرن التاسع عشر.
لا أتوقع نهاية المنتجعات الساحلية أو الفنادق الكبيرة أو الجولات السياحية، فلا يزال هناك متسع لها، لكن من غير المحتمل أن تظل النموذج السائد لفترة طويلة رغم قوتها السابقة.
*بالاتفاق مع «بلومبرغ»