كرادلة وهراطقة: عندما تتحول المؤسسة إلى طغمة
أبو القاسم قزيط
أحد أهم مشكلات المجتمع العربي أنه لا يواكب التحديث في المجتمعات المتقدمة، ويستعصي عليه نقل تجارب الأمم الأخرى، والمشكلة الأكبر أنه عندما يحاول نقل هذه التجارب فإنه ينقلها معصوب العينين
وفي تقديري إن أحد أنواع النقل غير المتبصر هو نظرة التقديس لفكرة المؤسسة خارج منطقها الداخلي وتقاليدها الراسخة، المؤسسة مقدسة في الغرب لوجود قوانين وأعراف ثابتة تحكمها ويعد التعدي عليها أمرا يصعب حدوثه، على عكس حال المؤسسة في بلادنا التي قد تخطف من قبل رئيس أو جماعة، وتصبح المؤسسة مطية لأغراض فئوية، وبالتالي تقع في التناقض مع الهدف العام.
المؤسسات المخطوفة أو المتكلسة يستحق فيها الهراطقة الاحترام أكثر من الكرادلة، عندما خطفت الكنيسة قرونا عديدة من قبل الباباوات الكرادلة، ظهر الهراطقة ليعيدوا الروح الحقيقية للكنيسة بل للمجتمع بأسره.
يقول المفكر(فرانسيس فوكوياما):- إن المؤسسات الديمقراطية والسياسة الأمريكية راسخة منضبطة وقوية، ولا يمكن أن تقهر تحت النزعة الفردية والجموح الفردي، لكنه يقر أن هذه المؤسسات لم تختبر اختيارا حقيقيا، ولم يتحداها أي رئيس أمريكي طيلة أكثر من قرنين من الزمن، لكنها اليوم تواجه تحديا حقيقيا من الرئيس ترامب، فوكوياما واثق من أن المؤسسة الأمريكية ستكون لها الغلبة وتروّض الرئيس الجامح، ملاحظة أساسية ينبغي وضعها في الاعتبار وهي أن المؤسسات الأمريكية ناضجة تماما ونتيجة ذلك كان بناؤها أعظم قوة في العالم، لذلك لا شك في القوة والمنعة التي تتمتع بها هذه المؤسسات وبالتالي هناك احترام للكرادلة أكثر من الهراطقة، لكن السؤال الحقيقي هو : هل بلغت المؤسسات الأمريكية حد الكمال والتمام؟ وبالتالي تنتهي الحاجة لوجود مهرطقين داخل المؤسسة يجبرونها وكرادلتها على تطوير أنفسهم و عدم البقاء في حالة جمود، فالتطور سنة الحياة، و لا يجب أن ننسى أن أمما كثيرة سادت العالم لكنها الآن في مؤخرة الركب.
عندما تجنح المؤسسة لا يعفي الرضوخ لها من تبعات أخطائها وخطيئاتها، من لا يذكر محاكم نورمبرج الشهيرة، فالكثير من النازيين عوقبوا حتى بالإعدام ولم تشفع لهم أنهم رجال مؤسسة ويطبقون أوامر قادتهم الكبار الفوهرر وهملر وكايتل وبورمان وغوبلز وغورنغ.
إيخمان في القدس كتاب شهير للفيلسوفة اليهودية هنا ارندت، تصف فيه النازي الشهير إيخمان المشارك في الهولوكست، بأنه ليس أكثر من بيروقراطي مخلص ومطيع للمؤسسة النازية، لم يكن يملك أفكاره ولا أحكامه الخاصة، ببساطة إيخمان كان يقدس مؤسسة لا تستحق التقديس، الشر الذي كان يرمز له إيخمان لم يكن شرا أصيلا بل شرا تافها، لأنه ليس نابعا من قناعات خالصة، بل هو انسياق وراء القطيع، و الرضوخ لوهم المؤسسة.
عندما تدخل أي مؤسسة في تعارض مع منظومة القيم العامة أو منظومة القيم الوطنية، أو لا تتماشى معها، في هذه الحالة وجود الهراطقة يصبح أكثر إلحاحا وأكثر أهمية من وجود كرادلة يكرسون وضعا شائنا. و وجود الهرطوقي يزلزل أركان المؤسسة حتى تعيد تموضعها وتدخل ورشة إعادة التأسيس من جديد .
عندما تتحول جماعة سياسية مؤسساتية حاكمة إلى مجرد طغمة حاكمة، متفردة في قراراتها ومنغلقة على نفسها وخارجة عن الإطار العام للمصلحة الوطنية، يصبح الشخص المؤسساتي صورة جديدة من إيخمان النازي، وكل من يطيع مؤسسته بصرف النظر عن الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية، هو ببساطة إيخمان سياسي.
مؤسساتنا المتكلسة العاجزة المخطوفة، لا شك أنها أكثر قربا من مؤسسة الكنيسة في العصور الوسطى، وهي أبعد ما تكون عن مؤسسات الدولة الأمريكية العملاقة، ولا شك أيضا أن بعضا منها نسخة سياسية من إيخمان يطيع المؤسسة وضميره الأخلاقي والسياسي في سبات عميق،
ما دام هذا حالنا، وتحولت الجماعات الحاكمة إلى طغمة حاكمة فحاجتنا للهراطقة أضعاف حاجتنا للكرادلة.