كابوس سندبادي وكابوس كافكوي
عمر أبو القاسم الككلي
يكشف هذا المقال عن وجود تناظرات بنيوية بين عملين أدبيين، سرديين، متباعدين جدا زمانيا، وينتميان إلى ثقافتين شديدتي الاختلاف. هما إحدى الحكايات الواردة في عمل “رحلات السندباد البحري” من كتاب “ألف ليلة وليلة”، وإحدى قصص الكاتب النمساوي فرانز كافكا.
*
في إحدى رحلاته، تؤدي سلسلة حوادث بالسندباد (1) إلى أن يجد نفسه وحيدا في جزيرة غير مأهولة، فيأخذ في التجول فيها على غير هدى، حتى يصل إلى “ساقية على عين ماء جارية وعند تلك الساقية شيخ جالس مليح وذلك الشيخ مؤتزر بإزار من ورق الأشجار” فيخمن أن وضع هذا الشيخ يشبه وضعه هو، أي أنه ممن نجو من الغرق عندما كسرت المركب. فيسلم على الشيخ الذي يرد عليه السلام بالإشارة، ويطلب منه، بالإشارة أيضا، أن يحمله على رقبته ويعبر به الساقية إلى ضفتها الأخرى. فيلبي له رغبته.
ومن هنا تبدأ الورطة الحقيقية.
إذ يتضح أن هذا (الشيخ المليح) كائن فوق-إنساني قادر على التشكل “فنظرت إلى رجليه فرأيتهما مثل جلد الجاموس في السواد والخشونة ففزعت منه وأردت أن أرميه من فوق أكتافي فقرط على رقبتي برجليه وخنقني بهما حتى اسودت الدنيا في وجهي وغبت عن وجودي ووقعت على الأرض مغشيا علي مثل الميت”. صار هذا الكائن يرفض النزول من على كتفي السندباد إلا حين يستبد التعب بهذا الأخير ويضطر إلى النوم. وبمجرد أن يعود إلى يقظته يقفز هذا الكائن إلى رقبته من جديد. حتى إنه يقظي حاجته على أكتافه. “وإذا أراد النوم يلف رجليه على رقبتي وينام قليلا ثم يقوم ويضربني فأقوم به مسرعا ولا أستطيع مخالفته”. واشتدت معاناة السندباد إلى أن أصبح يتمنى الموت.
يستمر هذا الحال أياما عديدة إلى أن يتوصل السندباد إلى صناعة خمر. وحين يلاحظ هذا الكائن التأثير الإيجابي للنبيذ على معنويات السندباد يطلب منه أن يجربه. وحين ترتخي قوى هذا الكائن وتهن من شدة السكر (1) يقوم السندباد بقتله.
وبذا يتخلص من ورطته.
*
في قصة “بلمفيلد، الأعزب المسن Blumfeld, an Elderly Bachelor” لفرانز كافكا (3)،
يعيش بلمفلد وحيدا في شقة في الدور السادس في إحدى البنايات. وهو يبذل جهدا في الصعود إلى شقته “سرا تقريبا، حيث يرتدي مئزر نومه، أيضا سرا تقريبا، يشعل غليونه، يقرأ قليلا في مجلة فرنسية مشترك فيها منذ سنوات، مترشفا في نفس الوقت خمرة الكيرش المصنوعة منزليا. وفي النهاية، بعد حوالي نصف ساعة يذهب إلى السرير” وهو غير راض على “حياة الوحدة الكاملة هذه غير السعيدة”.
ذات ليلة، وبمجرد أن يدخل شقته ويشغل النور الكهربائي، يلاحظ شيئا “لم يكن مهيئا لرؤيته. لأن هذا سحر: كرتان صغيرتان من السلولويد بيضاوان بخطوط زرقاء تنطان ارتفاعا ونزولا جنبا إلى جنب على الأرضية الخشبية. حينما تلامس إحداهما الأرضية تكون الأخرى في الهواء، وهي لعبة لا يتوقفان عن لعبها”. ويتأكد بلمفلد أن الكريتين تتحركان بحرية، ليس بفعل حيلة كهربائية أو أن أحدا ما يحركهما بخيوط. وهنا يعتريه “شعور غير سار. إذ، على أية حال، ليس مما يخلو من المعنى أن يعيش أن تعيش بسرية كأعزب غير لافت للاهتمام، الآن أحد ما، ليس مهما العلم بمن هو، تخلل هذا السر، وأرسل إليه هاتين الكرتين الغريبتين”.
وعندما يحاول الاقتراب منهما تبتعدان عنه، ولما نجح أثناء مطاردة في القبض على إحداهما أخذت الأخرى تقفز بنشاط ضاربة يده الممسكة برفيقتها الأمر الذي جعله يفضل إطلاق سراح الكرة. ظل كلما تحرك تبعتاه وحين يستدير فجأة تنطان خلفه دون أن تمكناه من يحافظ غليهما في مواجهته. وهما لم تظهرا أمامه أول مرة إلا لتقديم نفسيهما. حاول، كدأبه عند مواجهة أوضاع تخرج عن سيطرته، أن يظاهر وكأن شيئا لم يكن. لكن الإزعاج استدام طوال الليل. في الصباح أفلح في استدراجهما إلى خزانة الملابس والإقفال عليهما بالمفتاح.
بعد ذلك يعطي مفتاح شقته ومفتاح خزانة الملابس لفتاتين صغيرتين من صغار جيرانه ويطلب منهما. أخذ الكرتين. ورغم أن القصة تستمر بعد ذلك عدة صفحات، إلا أننا لا نعود ندري ماذا كان مصير الكرتين.
*
والآن، ما هي الروابط الواصلة بين هذين العملين؟.
1- يجمع هذين العملين إطار عام، هو المناخ الكابوسي. فقصص السندباد البحري كابوسية بامتياز، وكذلك مجمل كتابات كافكا.
2- تشترك شخصيتا العملين المعالجين هنا في عنصر الوحدة والعزلة. السندباد في الجزيرة المعزولة، وبلمفلد، الأعزب المسن، في شقته، وصلته بجيرانه شبه منعدمة.
3- يشترك العملان في الانتماء إلى حالة كابوسية عجائبية ذات مواصفات متميزة. وهي تلك الحالة التي يجد المرء فيها نفسه، فجأة، في مأزق لا يبدو أن ثمة منه فكاكا. التورط مع كائن فوق- إنساني، في حالة السندباد، والتورط مع جسم تحت إنساني، جسم مصنوع، في حالة بلمفلد.
4- في الحالتين يتجنب مصدرا الكابوس الوجود أمام الضحية (التواجه إما للعناق أو العراك. وهما منتفيان هنا). ربما لمنع فرار الضحية أو اكتسابه تفوقا ما.
5- في الحالتين يجري التخلص من مصدر الكابوس بخدعة. خدعة الخمر والقتل في حالة السندباد. وسجن الكرتين ومنحهما للأطفال في حالة بلمفلد.
*
لا نقصد من كشفنا عن وجود ما أسميناه “تناظرات بنيوية” بين هذين العملين الإيحاء بوجود تأثير من السابق في اللاحق. ونعتقد أن هذه مجرد اتفاقات عفوية كثيرة الحدوث.
أود أن أختم بملاحظة تتعلق بقصة كافكا. وهي أن قصص المعاناة الكابوسية والعجائبية تتعلق، عادة، بكائنات فوق- إنسانية. لكن كافكا عكس هذا المسار، فنزل مما هو فوق إنساني إلى ما هو تحت إنساني. إلى شيء مصنوع.
(1) “ألف ليلة وليلة” م 3. مكتبة الجمهورية العربية، القاهرة- مصر (د. ت). تبدأ حكايات السندباد البحري من الليلة 425 (ص 82) وتنتهي عند ليلة 555 (ص 122). والحكاية محل التناول هنا تبدأ ليلة 545 (ص 107) وتنتهي ليلة 547 (ص 109).
(2) يبدو أن إحراز انتصارعلى الكائنات فوق-الإنسانية عن طريق سقيها خمرا في الحكايات العجائبية شائع. فعلى سبيل المثال، في الأوديسة يتغلب أديسوس ورفاقه على المارد الجبار ذي العين الواحدة (السكيلوبس) بسمل عينه بسيخ حديد محمى بعد إسكاره.
(3) In:Franz Kafka, The Complete Stories, Schocken Books, New York, 1971: Ps 183- 205