قاعدة وقانون*
بيير ماشيري
ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي
عمل الكاتب لا يقدم نفسه بشروط المعرفة (ستتفتح هذه النقطة في السياق الملائم). إلا أن فعله يمكن، من جهة أخرى، أن يكون موضوعا لمعرفة معينة. ويمكن، على الأقل، فصل هذين الجانبين عن بعضهما. وهكذا، إذا ما قبلنا بأن الخطاب النقدي يخلق حاجة جديدة إلى معقولية rationality تُواصلُ خطاب الكاتب، فإنها تكون ضرورية لتحديد الوضع السليم للنقد، منكرة، على وجه الخصوص، أية ادعاءات بحيازة موقع داخل الأدب.
هذا يفترض هدفا جديدا للنقد الأدبي: عدم الاكتفاء بوصف المنتَج المنجَز، وتحضيرِه للبث والاستهلاك، وإنما سيوضح هذا المنتج، شارحا، بدلا من أن يكون واصفا. ومن خلال الافتراق الجذري عن توجهات النقد السابق النشطة كافة، سينطرح سؤال نقدي جديد: ما هي قوانين laws الإنتاج الأدبي؟.
يمكن للمرء أن يرى الثمن الباهظ المتوجب دفعه بهدف إعادة النقد إلى مجال المعقولية: ينبغي أن يُمنح “موضوعا جديدا”.
فما لم يتمكن النقد من القيام بهذا التغيير، ما لم يقطع تماما مع ماضيه، فإنه مقيض له أن يظل مجرد إيضاح للذوق العام، ليس أكثر من فنٍ. تنشغل المعرفة العقلانية، مثلما رأينا، بمأسسة القوانين (التي هي، معا، كلية universal وضرورية ضمن حدود مُعّرَّفة بواسطة شروط تشكيلها).
فن ما، تجريبي وعملي بدلا من كونه نظريا (وهو ما يشكل أولى خصائص القواعد rules المتحكمة فقط في “استخدام” واقع “معطى” تجريبيا)، يشكل قواعد عامة لا تحوز على سوى قيمة تقديرية [تقريبية] approximate أو متوسطة. من هنا ولد تعبير “كقاعدة عامة”. لأن القواعد، رغم وظيفتها المقيِّدة، لا تمثل أية ضرورة حقيقية.
الاستثناء يؤيد القاعدة، ولكن هذا يقلب القانون. “كقاعدة عامة”، فإن النقاد الذين تبنوا دور فنيي [خبراء] الذوق ليسوا على خطأ أبدا، إلا أنهم في محاولتهم تعريف أشكال واقع الذوق الشائعة يخطئون دائما وبالضرورة، لأن عملهم يراوغ المعقولية ولا ينتج معرفة بمعنى الكلمة. تضمن القاعدة نشاطا هو، في نفس الوقت، معياري normative وتقديري approximative (يحملان نفس المعنى)، هذا النشاط يمكن أن يصنف على أنه متناقض بسبب عدم قدرته على إنتاج مبررات وجوده، وبذا فهو”يتلقى” معاييره من مكان آخر.
فن النقد يتميز بموقفه المستلَف، رضائه باستخدام مفاهيم خارجية لا يقدر على شرحها. من الواضح أن النقد الذي يتابع نشاطا مرتكزا على قواعدَ، يعامل الأدب باعتباره سلعة، مجموعة مواضيع [أشياء] معدة للاستهلاك. هذا النوع من النقد ينظم ويراقب استخدام واقع معطى منح نفسه تجريبيا للانتباه. مثل هذا النقد يحل مسألة وجوده ذاته باللجوء إلى الطبيعة الغامضة التي لا يمكن تفاديها للإبداع، إنه ملجأ جديد للجهل.
ليس حادثا عارضا أن فن النقد يقترح قواعد الاستهلاك فقط، ومعرفة صارمة، ومن جانب آخر، عليه، منذ البداية، توضيح قوانين الإنتاج. يمكننا البدء بالمقترح القائل أن القراءة والكتابة ليستا متساويتين وأنما هما عمليتان متعاكستان. دعنا لا نخلط بينهما. عرَّفت الصفحات السابقة مشكلة أساسية في منهج النقد التقليدي: ميله إلى الانزلاق في مغالطة هي من طبيعية التجريبية empiricism ، ليعامل العمل (موضوع مشروع النقد) من حيث هو واقعة معطاة ومنبثقة معزولة بغية التفحص. وهكذا فإن العمل يوجد فقط كي يجري تلقيه، وصفه، ويتم تمثله عبرالإجراءات النقدية.
الحكم النقدي critical judgement لا يتطلب، بسبب اعتماده التام على موضوعه، سوى إعادة إنتاج موضوعه ومحاكاته بتتبع خطوطه الواضحة. هذه هي الإزاحة الوحيدة التي يمكن للعمل أن ينجزها: أن يُستهلك، أن يغادر حيز الكتاب المحدود إلى عقول القراء المحتملين، إلى عقول في حالات متنوعة من الصفاء والجاهزية. النظرة النقدية المدققة نموذج لمثل هذا التواصل.
دعونا ننظر الآن مغالطة أخرى، تبدو مختلفة جدا، وحتى معارضة: مغالطة المعيارية.
* من: بيير ماشري، نظرية للإنتاج الأدبي، ترجمه عن الفرنسية جوفري وول. مع مقدمة جديدة بقلم تيري إيفلتون، ولاحقة جديدة بقلم المؤلف، كلاسيكيات روتلدج 2006.
Pierre Macherey, A Theory of Literary Production, Translated from the French by Geoffrey Wall. With a new introduction by Terry Eagleton and a new afterword by the author, Routledge Classics 2006.