فيض الرواة في “ألف ليلة وليلة”
عمر أبو القاسم الككلي
الراوي عماد أي عمل سردي وهو محركه المباشر. فهو الذي ينقل إلى المتلقي، سامعا أو قارئا، الأحداث والوقائع محل السرد. وقد يتعدد الرواة في العمل الواحد وتختلف وظائفهم ومواقعهم، مثلما هو الشأن في العمل الأشهر عالميا “ألف ليلة وليلة”.
ففي هذا العمل يتعدد الرواة. إذ لدينا، بداية، الراوي العليم، الذي يعد نائبا عن الكاتب (في هذه الحالة جامع حكايات ألف ليلة وليلة، والذي نعتقد أنه مؤلف الحكاية الإطارية التي تسور العمل). هذا الراوي العليم يتولى سرد “الحكاية الإطارية الهيكلية)” المتعلقة بشهريار وشاه زمان، ثم بعلاقة شهريار بشهرزاد وما استجد بعدها من تطورات.
وقبل أن يغلق هذا الراوي حكايته الإطارية، يسلم مقاليد السرد إلى شهرزاد، التي تتولى منصب راو عليم ثانٍ، مستهلة سردها بالعبارة المتكررة: “بلغني أيها الملك السعيد…” وفي نهاية كل جلسة سمر يعود الراوي العليم الأول إلى الظهور بالعبارة المتكررة أيضا “ولما أدرك شهرزاد الصباح، سكتت عن الكلام المباح”. أي أن شهرزاد ليست راويا عليما مستقلا، وإنما هي مكبوحة برسن يحركه راو عليم أعلى مهيمن.
نلاحظ أن شهرزاد تلعب هنا دور راوٍ وسيط بين الراوي العليم ورواة مجهولين أبلغوها ما ترويه، من طرف، وشهريار وأختها دنيا زاد (وبالتالي المستمع أو القارئ) من طرف آخر.
كما يقتحم المشهد رواة آخرون تمنحهم شهرزاد فرصة رواية تجاربهم مباشرة، بضمير المتكلم. وإذن فقراءتنا لـ “ألف ليلة وليلة” تضعنا في حضرة فريق متماسك من الرواة المتنوعين، بقيادة الراوي العليم، المسؤول عن إيصال العمل إلينا، عبر وسيلته شهرزاد، التي لها، هي الأخرى، وسائلها، أي رواتها.
سلسلة الرواة هذه تُذكِّر بنظرية الفيض والصدور لدى أفلوطين، ثم الفارابي وابن سينا، حيث يناظر المؤلفَ (هنا جامع الحكيات) الأقنوم الأول (الذي هو الله) في نظرية الفيض الأفلوطينية. ويصدر عن المؤلف الجامع) راو عليم يناظر الأقنوم الثاني الذي هو العقل لدى أفلوطين، ثم يصدر عن هذا الراوي العليم راو عليم آخر هو شهرزاد، بحيث يماثل الأقنوم الثالث الذي هو النفس الكلية لدى أفلوطين. وتصدر عن شهرزاد الراوي العليم الثاني) مجموعة من الرواة الآخرين، مثلما تصدر عن النفس الكلية، في نظرية الفيض لدى أفلوطين، نفوس الكواكب والبشر وموجودات العالم المحسوس جميعها.
طبعا، لا نقصد أن عمل “ألف ليلة وليلة” مصمم، منذ البداية، على هذه التماثلات والتناظرات. لكننا نرى أن قراءتنا هذه لشبكة الرواة في هذا العمل قراءة ممكنة، تربطه برباط (وإن كان خفيا) بجانب فلسفي، وبالتالي تكشف عن جذر مهم من جذوره التي تضعه في سياق تواصل الثقافات العالمية.