“في مديح جنود الظل”
أنيس فوزي
في الفنون والأدب والرياضة والإعلام والسينما وفي شتّى مجالات الحياة، هناك مبدعون مثل نجوم السماء، يلمعون في اختصاصاتهم بمهارة وحرفيّة عالية، أسروا ألباب الناس بعطائهم، وأسعدوا عيون محبيّهم وأبكوها. وصارت ذكرياتهم الجميلة معلّقة بأغنية مؤثّرة، أو مشهد مسرحي ذكي، أو هدف في الدقيقة التسعين. وذكريات تحزنهم بموت فنانهم المفضّل، أو شاعرهم الجميل، الذي قد يصير في لحظة ما، مثلهم الأعلى.
لكن وراء كلّ إبداع جهد عظيم، فالنجوم التي برزت في مجالاتها دفعت ثمن هذه الشهرة من وقتها وحياتها الشخصية والاجتماعية، من أجل تقديم الأفضل. إلاّ أن هناك خلف الكواليس، وبصمتٍ شديد، يعمل آخرون بجهد أكبر، وبروح أعلى، ويضحّون بحياتهم الشخصية ووقتهم وعائلاتهم، ولا تخلّد أسماءهم، وقد لا يذكرها أحد.
خلال عملي في الصحافة التلفزيونية، نكتب للصورة وليس للقارئ، ونحن نعدّ الأخبار والتقارير لإلقاء المذيع. يحتّم عليك الهواء المفتوح على كل البيوت وعلى مختلف الكفاءات والأعمار ومستويات الإدراك والأمزجة المختلفة، استخدام لغة أقلّ كثافة، تتناسب مع لغة الإخبار المعلوماتيّة وتقارب الأذن الموسيقية للمشاهد، محافظة على سلامة اللغة في نفس الوقت. نعدُّ هذا للكاميرا، وهنا عالم آخر مختلف تماما عن غرفة التحرير والإعداد، فالكاميرا مثل الإنسان تماما، تحبّ شخصا فتعطيه محبّة الناس والشهرة والمجد، وتكرهه فتنفّرهم منه وتسقطه من الأقمار الصناعية للأبد.
هذه المنظومة التي تعمل في الهواء المباشر كخلية نحل، لا يبرز خلالها إلاّ القليل، ولا يبقى في الذاكرة إلاّ الأكثر اجتهادًا في تسويق نفسه، مع الاحتفاظ بالمعايير المؤهلة للمهنيّة والاحتراف. لكنّي كمحرّر أخبار وكاتب تقارير، أشعر أحيانًا أنّ المراسل الذي التقط بعدسته الصور مظلوم بشدّة، فهذا الجهد المبذول والوقت المقتطع من عمره، لا يظهر منه في النهاية سوى “أقلّ من دقيقتين فقط”، وتُعرض في يوم واحد فقط، وتُنقل إلى الأرشيف، وقد لا ينتبه الناس المعجبين بالصور لاسم هذا الفنان النبيل، الذي يعمل في صمت.
مراسل ليبي اسمه “محمد الحضيري” لفتَ انتباهي طوال مدّة عملي، شاب نبيل تأتي صورهُ بشكل منتظم ودقيق، منوّعةً بالأماكن والمشاهد، ومرفقة بشرحٍ رفيع المستوى واللغة، يجعل من كتابة التقرير ممتعة أكثر، ويخفف علينا عناء البحث في المخيّلة عن الكلمات المناسبة، فصوره ومشاهده الرائعة تنطق بنفسها، كأنهُ من كتبها بلساننا.
هذا واحد من آلاف المراسلين المجتهدين في العالم، الذين يقومون بدور أولئك الرحّالة القدماء، يعبر بلدة تلو الأخرى، وواد تلو الآخر، ويختار أمكنة بعيدة عن ضجيج المدن والقرى الحديثة، أمكنة ليبيّة صرفة، حيثُ الصحاري القاحلة والمواشي الهائمة والرعيان الحالمين الهانئين، والبيوت المفتوحة للضيف والمشرّد والجائع، والنفسيات الطيبة الحنونة التي لم تفقد عذريتها بعد، ولم تدخل إلى عالمنا الضائع والبائس، فحتى لو كان الماء قليلا والزاد أقلّ، فالشعر كثير والمحبّة أكثر. ينقلُ الحضيري وزملاؤه في كل العالم عيونهم إلى هذه الشاشة البيتوتيّة الصغيرة، كلّما كانت هناك قصّة، أو كلّما تطلّب الأمر لاختراعها.
شخصيا، أعتبر مهنة المراسل أهم ركن في أية مؤسسة إعلامية. وأخجلُ كلّما فكّرت بكمّ الإجحاف الذي يمكن أن يتعرض له مَن المُشاهد، عندما لا يقرأ ولا ينتبه – بقصد أو بغير قصد – عن مصدر هذا الإبداع المجتهد والمنتظم. هذه المهنة المقدّسة للغاية بالنسبة لي، فهي تخدم الناس بنقل الصورة والإخبار بها والحديث عن خلفياتها وتفاصيلها، دون حاجة إلى رواية وشهود وعنْعنة وصحيح وضعيف، بل لعيْن مجرّدة وحسب. إضافة إلى أنّ العمل على الأرض يختلف عن العمل من غرفة التحرير، فهو أخفّ وأجمل بكثير، وبعيد عن الضغوط والمشاكل الفنية والهواء المفتوح، وقريب من الإبداع. لكنّه أصعب من مجرد التصوير ونقل الصورة وحسب. وهذه النقطة هي ما تخلق مراسلا محترفا وآخر هاويا، وتجعل من أحدهم مراسلاً ناجحًا، أو أقل نجاحا.
وإذا “ما عشنا وشفنا” دولتنا تحترمنا مرة واحدة، وتَمتّع الإعلام بالاستقلالية التامة عن الدولة، فلن يكون هناك مجال للتزوير والكذب. وستكون رؤية البطولات نادرة! موسمية ربّما أو سنويّة، وليست كما الآن؛ رعاة أبطال في نظر قطعانهم، وخصم الراعي أيًّا كانَ هو الذئب، وإعلام الراعي كلبهُ.
أكتبُ هذه المقالة، دون هدف سوى الاحتفاء بالعمل الفني وتقديرا له، خصوصا العمل خلف الكواليس، المجهودات الجبّارة التي يبذلها كل مراسلي ومحرّري العالم، كل التقنيين ومهندسي الصوت والمونتاج وضابطي الصورة والإيقاع والجودة والأداء، وكلّ كتّاب الأغنيات والسيناريوهات والسينما الذين لا نعرفهم، ويسرق اسم النجم أذهان المشاهدين وحده، إلى كل المدربين المساعدين والعازفين الثنائيين والممثلين الكومبارس، كل فرق الكورال التي تنشد خلف المطربين، وفرق المعدّين التي تكتب للبرامج، وإلى كلّ العاملين خلف الأضواء، في كل زمان ومكان، وفي شتّى المجالات، فردا فردا وإنسانا إنسانا ومبدعا مبدعا… لكم المجد عددَ أفكاركم وإبداعكم وقطرات عرقكم، وعدد ضحكاتكم ودموعكم، ولكم عندنا أجر عظيم من المتعة والفائدة والجمال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص 218