في حضرة الكتابة
رؤوف مسعد
في واحدة من الألغاز الدينية المسيحية بالنسبة لي كان اصطلاح ” الكلمة ” حيث تقول الآية ” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيئا مما كان “( يوحنا – أصحاح واحد) ثم عرفت بعد ذلك إن اصطلاح ” الكلمة ” مأخوذ من الاصطلاح الإغريقي الفلسفي؛ وكيف أن الكلمات التي هي أساس الفروقات البشرية تحولت لتصبح من المقدسات التي لها رهبة إلهية.
بل إن الكلمة لا تعنى فقط الاصطلاح المباشر بل تتوسع وتدخل بنا إلى عالم الأسطورة.
كان أهم سؤال تم توجيهه إلي من الورشة حول ” العمر ” أي هل هناك عمر محدد يبدأ الكتّاب فيه ( ومنه ) الدخول إلى عالم الكتابة؟
قد فاجأني السؤال فأنا واحد من الذين بدؤوا الكتابة في أواخر أربعينياتي .. وأعني هنا “الكتابة الجادة الطويلة النفس” فخلال تجوالي الطويل خارج مصر منذ عام 1970 حتى العودة عام 1982 لم أكتب شيئا ذا قيمة أو له علاقة بالنفس الطويل. بلى كتبت نصين مسرحيين لكن ذلك قبل أن أدرس “فن المسرح وعلمه” دراسة جادة في مدرسة المسرح العليا في وارسو – بولندا .
وحينما أنهيت تجوالي و تسكعاتي في العالم لكي أستقر وأكتب “بيضة النعامة” كان عمري آنذاك تسعة و أربعين عاما بالدقة.
لعل وصولي هذه المرحلة من العمر واختزان عدة تجارب داخلي؛ تجارب الغربة والسفر وعدم الاستقرار جعلني أكثر ميلا إلى “الاستقرار” خاصة بعد أن مررت بتجربة الزواج والطلاق “آلمني” مرتين قبل أن أستقر مع زوجتي الحالية منذ أكثر من اثنين وثلاثين عاما (أكتب بتاريخ 2018 – مايو)
بالنسبة لي لم أفكر أو أهتم بموضوع “العمر” وعلاقته ببدء الكتابة “ذات النفس الطويل” إلا بعد أن واصلت الكتابة خلال العقود الماضيات لأصل الآن إلى عمر يناهز الواحد والثمانين (!)
ولقد مررت بكل “المراحل” العمرية في الكتابة حيث أن بدأت أكتب “بيضة النعامة” عام 1982 أي بعد عودتي مباشرة إلى مصر بعد غيبة متواصلة لاثنتي عشر عاما.
كان بدء الكتابة شاقا ومخيا أيضا؛ فأنا من جيل تم إطلاق اصطلاح الستينيات عليه أي إن أحوال أعوام الستينيات المصرية خاصة عام سبعة وستين أي عام الهزيمة المخيفة كان علامة بارزة في تحركنا السياسي و الأدبي / الثقافي أيضا. معظمنا كان قد قضى بضع سنوات في سجون ناصر بعد محاكمات عسكرية زائفة “بتهمة الانضمام إلى تنظيمات ماركسية تسعى إلى تغيير الحكم بالقوة”.
هكذا كان تصنيف الاتهام رغم إن كل التنظيمات الماركسية التي تم القبض على أفرادها لم تستطع أجهزة الأمن إثبات وجود سلاح يمتلكه أو يتمرن عليه أفرادها اللهم إلا تنظيم صغير ظهر بعد سنوات من الإفراج والعفو عن التنظيمات الكبرى ( 1964 ) لتدمغه مباحث أمن الدولة باسم “التنظيم الشيوعي المسلح” حيث وجدوا بضع بنادق قديمة مستهلكة لدى بعض الأفراد !
لكن هذا لا يعنينا هنا ..
ما يعنينا تجربة “بدأ” الكتابة..
وكذا محاولة الإمساك بأسبابها (!)
فليكن السؤال الأول و الأساسي هنا : لماذا يريد الناس أن يكتبوا؟
والإجابات هنا أيضا معقدة و قد تكون أيضا “شخصية” أي لماذا بدأت أنا – مثلا- في أزمة منتصف العمر بالكتابة بعد أن أجلتها سنوات طوال؟
بالطبع فإجابة عن سؤال / مثال كهذا تستلزم قدرا كبيرا من الصدق المهني و البشري. والاختلاف واضح بين الصدقين؛ فالمهني يرتبط بفعل الكتابة كعملية متواصلة حتى لو انتهت أسبابها المباشرة مثل الانتهاء من “كتابة رواية” وتكون الإجابة المتعلقة بالمهنية دقيقة و مباشرة أيضا. لكن الصدق البشري مرتبط ليس فقط بانتهاء فعل الكتابة لكن “بعدم” الانتهاء من فعل الكتابة الآني حتى لو انتهى الكاتب من كتابة رواية أو دفعها إلى المطبعة. فقد تكون هناك – فعلا- نهاية ميكانيكية واضحة لانتهاء فعل ما لكن الكتابة ليست مجرد بداية ونهاية.. إنها “عملية متواصلة” حتى لو لم تكن هناك كتابة فعلية. متواصلة لأن “مخ” الكاتب ما يزال يعمل – حتى لو انتهى الجانب العملي – في إعادة صياغة و تدقيق نصوص قد تبدو غير واضحة لمن لا يكتب ” بانتظام ” مثل التنفس أي مواصلة هذا “الانتظام” حتى لو لم تتم إضافته إلى ملفات محددة في الكمبيوتر !
من هنا أقول إن الكتابة “قدرا لا فكاك منه” متى ولجتها واحتشدت لها صادقا متبتلا لا تطلب منها جزاء و لا شكورا غير الإحساس الخاص بالاكتمال ..
إنها القبلة الأولى بين شفتي مراهقين .. وسوف تتكرر حلاوتها و دهشتها طالما في الكاتب “نفس” يستمتع بدهشة القبلة الأولى مكررة ألف مرة !
المصدر: صفحة الكاتب على فيسبوك