في تحديات المخاض الأميركي
سمير التقي
ها هي الولايات المتحدة تكتشف أنها أسرفت في ترف الاعتقاد باستفرادها كقطب كوني وحيد، فبعد ثلاثة عقود من وهم الحرب على الإرهاب يكتشف الأرنب أنه كان نائما فيما كانت السلاحف تثابر على الركض.
دهش الكثيرون من الخبراء من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، كما دهشوا من قبل حين عاقبت الولايات المتحدة ألمانيا بسبب أنبوب التيار الشمالي وحين انسحبت من اتفاقات سولت 2. سنحاول في ما يلي تقديم فهمنا، ولعله يكون مختلفا، للتحول الأميركي العاصف الذي لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية وتمر به الولايات المتحدة. تتولى إدارة هذا الانعطاف المؤسسات الاستراتيجية المركزية.
وفي حين يعتبر منصب الرئيس الأميركي بما يحدده من صلاحيات من أضعف مناصب الرؤساء التنفيذيين في العالم، تترك هذه المؤسسات لهذا المنصب دور الإخراج النهائي وشكل الأداء، ليفترق في نهاية الأمر أداء بيل كلينتون عن دونالد ترامب وعن جو بايدن، لكن السمت الاستراتيجي يبقى أو يفترض أن يبقى دون تغيير.
تفكك الولايات المتحدة الآن النظام العالمي الذي أسسته في بريتون وودز عام 1954. فبعد الحرب العالمية الثانية، خرجت ثماني عشرة دولة من الحرب في حالة خراب اقتصادي، في حين أن الدولة الوحيدة التي كانت قادرة على التعافي وإعادة إنهاض الاقتصاد الرأسمالي العالمي كانت الولايات المتحدة. في بريتون وودز عقدت الولايات المتحدة صفقتها التاريخية مع أكثر من خمس وأربعين دولة مناصرة لها في العالم.
تضمنت هذه الصفقة تكريس الولايات المتحدة كحام وضامن لحرية التجارة العالمية، لتقوم الولايات المتحدة بفتح أسواقها، مقابل التزام هذه الدول: أولا بالدولار وثانيا بمعاداة الشيوعية. ومع الانهيار الطري والمدوي للاتحاد السوفييتي، كان لا بد من إعادة ترتيب الأولويات والتحالفات. فلماذا تقدم الولايات المتحدة على تهديم نظام أسسته هي بذاتها؟
لا ينحصر هذا الانعطاف في إعادة صياغة النظام الدولي، بل إنه سينعكس ولا شك في إعادة صياغة المنظومة الاستراتيجية ومنظومات الصراع في إقليمنا الشرق أوسطي الكبير
لقد حصلت في العالم متغيرات حاسمة غيرت عناصر قوة الاقتصاد العالمي وغيرت بالتالي عناصر القوة المطلوبة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. إذ تراجع موقع البضائع المادية والعمل العضلي كمصادر للثروة لصالح العمل الفكري والإبداعي وتقنيات المعلومات. كما تراجع موقع الدول المصدرة للخامات والبضائع لصالح الدول المستهلكة.
اليوم تستهلك نيويورك سبعة أضعاف القارة الأفريقية ليصبح التنافس على الأسواق في الدول المتقدمة الأفق الوحيد للدول التي بنت اقتصادها على التصدير مثل ألمانيا وتركيا والصين بالطبع. لذلك يصبح موقع الدولار مرتبطا جوهريا بقدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ باستقلالها الاقتصادي من جهة وبقاء رخائها الاقتصادي كمستهلك رئيسي للمواد والخام والبضائع في العالم من جهة أخرى. من جهتها تحقق الولايات المتحدة نسبة لا يستهان بها من دورتها الاقتصادية ودخلها الوطني من خلال عولمتها المصغّرة مع كل من المكسيك وكندا.
لكن ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة يمكن أن تفكك أو تخرج من منظومة العولمة. فلئن كانت اتفاقيات بريتون وودز تقوم في جانب منها على مكافحة الشيوعية، تبقى هيمنة الدولار والعملات المرتبطة به مباشرة هي الأساس في رفاه الولايات المتحدة وعزها. القيمة الكونية للدولار مؤسسة على موقع الولايات المتحدة من حماية وإدارة منظومة التجارة العالمية.
في هذا الصدد يفقد الاحتلال البري بالنسبة إلى الولايات المتحدة أي مغزى طويل الأمد، ليقتصر دوره على الردع وضبط الصراعات. لذلك تستغني الولايات المتحدة عن التواجد الأرضي لتغادر البر وتترك حروب البر الإقليمي وتوازناتها لموازين القوى وتوازنات الصراع.
فلطالما خسرت الولايات المتحدة حروبها البرية الصغيرة من فيتنام إلى الصومال إلى سوريا وأفغانستان، لا لسبب إلا لكونها تشتيتا لقدراتها وتركيزها على الصراع المركزي الرئيسي للهيمنة على المياه الزرقاء.
لا يعني ذلك أن الولايات المتحدة ستتخلّى عن هيمنتها البرية. فهي تعتمد على تفويض منظومات دول أو دول إقليمية معينة بإدارة هذا الإقليم أو ذاك بما يحقق الأهداف الاستراتيجية المشتركة وبما يسمح بدرء محاولات الهيمنة للقوى المنافسة. يشبه الباحثون الاستراتيجيون نمط الهيمنة الذي يجري تكريسه الآن بنمط الهيمنة في الإمبراطورية الرومانية.
إذ لم تكن هذه الإمبراطورية كإمبراطورية بحرية تؤسس علاقتها مع البلدان التابعة على جباية الضرائب، بل على مشاركة الدول التابعة لها في قواتها ضد الخصوم. أما الولايات المتحدة ذاتها فلها المياه الزرقاء، أو أنها ستحاول فرض ذلك بكل ما أوتيت من قوة. لكن في ظل التقدم التقني الراهن لا تبقى المياه الزرقاء للمحيطات وحدها هي فضاءات منظومة التجارة العالمية، بل صارت تشمل أيضا، الفضاء السيبراني والفضاء الخارجي. في هذه الفضاءات تعاني الولايات المتحدة صدمة السبوتنيك. ها هي تكتشف أنها أسرفت في ترف الاعتقاد باستفرادها كقطب كوني وحيد. فبعد ثلاثة عقود من التشتت الاستراتيجي ووهم الحرب على الإرهاب، يكتشف هذا الأرنب أنه كان نائما فيما كانت السلاحف تثابر على الركض.
والآن لا يمكن تفسير التضخم الفادح والصعود المنقطع النظير في تمويل العتاد الاستراتيجي الأحدث، وتمويل الأبحاث في ما لم تكن البشرية تحلم به قط من تقنيات للحرب إلا بذلك العزم المطلوب لتجاوز صدمة سبوتنيك الجديدة. فالولايات المتحدة ستعتبر عدوا استراتيجيا لها كل من يحاول منافستها في هذه الفضاءات. أما الهيمنة البرية فهي تقوم على منطق نهب الخيرات وليس منطق التجارة، وهذا ما أصبح مكلفا بحد ذاته بل ومضرا بمنطق التجارة وخطرا عليه.
لذلك سنرى في المستقبل الكثير من ملامح الانسحاب البري الأميركي، في أوروبا والشرق الأوسط. من هذا المنطق تجري مقاربة الأزمات الإقليمية في العالم وفي منطقتنا. لذلك لم يكن مفاجئا لبعض الخبراء في واشنطن، التفويضات الإقليمية الاستراتيجية لكل من بولونيا ورومانيا وتركيا وإسرائيل وتايوان والفلبين.. إلخ، كما لم يكن مفاجئا الانسحاب من أفغانستان.
في المستقبل، سنرى المزيد من الجهود لبناء التحالفات البحرية. وحتى الآن تمكنت الولايات المتحدة من بناء ست منظومات تحالف استراتيجي بحري حول سلسلة الجزر المحيطة ببحر الصين، وبنت منظومة استراتيجية بين البلطيق والبحر الأسود. وسنرى المزيد من هذه العمليات في الخليج وبحر العرب.
لقد حصلت في العالم متغيرات حاسمة غيرت عناصر قوة الاقتصاد العالمي وغيرت بالتالي عناصر القوة المطلوبة بالنسبة إلى الولايات المتحدة
وسنرى بالمقابل جهدا أميركيا حثيثا لبناء منظومات إقليمية تقوم على توازن الخصومات وضبط النزاعات بهدف منع نفوذ الخصوم الاستراتيجيين الكبار للأقاليم الاستراتيجية. سنشهد الكثير من عمليات التفويض للقوى الإقليمية التي تتقاطع في جوانب معينة في مصالحها مع الولايات المتحدة لإدارة البر الإقليمي.
وسنرى تحالفات إقليمية جديدة لإدارة المياه الخضراء أي في المياه القريبة من الشواطئ. وذلك كما يفسر الحراك الجاري حول مضيق هرمز وحول باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر. في هذه المياه وليس في البر، لا تسامح أميركيا مع الاختراق الاستراتيجي للمنافسين الكبار.
لا ينحصر هذا الانعطاف في إعادة صياغة النظام الدولي، بل إنه سينعكس ولا شك في إعادة صياغة المنظومة الاستراتيجية ومنظومات الصراع في إقليمنا الشرق أوسطي الكبير.