فنجان عقل.. وزوبعة بحجم الوطن
سالم العوكلي
من يصرون على تقسيم الصراع في ليبيا وفق مبدأ جهوي يشوشون حقيقة ما يحدث، والتشخيص الخاطئ يؤدي إلى علاجات خاطئة، بل قاتلة أحيانا.
لا يمكن أن نعتبر أن الوطنية محتكرة في الشرق الليبي وأن كل ما في الغرب هو غير وطني كما تروج بعض الأصوات غير المسؤولة، ولا العكس، الصراع في ليبيا متداخل ومتشابك وفق أجندات سياسية أو عقائدية أو مصلحجية تفتح فروعها في كل مدن وجهات ليبيا.
مثلما لا يمكن أن نعتبر ثورة فبراير ثورة شعب، لأنها ثورة جزءٍ من شعب ضد النظام مع جزء لا يقل في تعداده من شعب كان مع النظام، وحين بإحصائية بسيطة نحسب المدن التي انتفضت في فبراير والمدن التي لم تنتفض، ووفق الكثافة السكانية، فسنجد أن النسبة متقاربة جدا إن لم تكن في صالح المؤيدين للنظام السابق، وفي الحقيقة ما عزز النسبة المنتفضة وجعلها أقوى هو قرار مجلس الأمن وتدخل الناتو. هذه حقائق يجب أن نعود إليها ونضعها بين قوسين حتى نزيل الغشاوة ونتمكن من رؤية ما يحدث الآن أيضا، ولا نقع في هذه الاختزالات والتوصيفات السهلة التي تحكمت فينا منذ الكتابة المحرفة والعاطفية لفترة الاحتلال الإيطالي، حيث تم تصوير الشعب الليبي كأنه في جهة والطليان وقليل من الخونة في جهة أخرى، ولم تكن هذه حقيقة الوضع لا في الغرب ولا الشرق الليبي.
الأحكام العمومية والأحكام المسبقة أفضل طريقة لوضع الغشاوة على العيون، ومن ثم فقدان البوصلة وضياع الطريق، لأن لكل طريق خارطة والخارطة تلزمها بوصلة لا تنحرف عقاربها عن الاتجاهات الصحيحة.
الوطنيون، وما أكثرهم، موجودون في كل مدن وربوع ليبيا، والإرهابيون، وما أقلهم، موجودون في الغرب والشرق والجنوب الليبي، وما يسمى الإسلام السياسي موجود في كل الأقاليم ، والفارق أن الإرهابيين يد واحدة ولا يخونون بعضهم البعض، وأيضا ممثلو الإسلام السياسي. بعكس من يطرحون أنفسهم وطنيين، الذين هم منقسمون، وكثير منهم يحاول أن يجعل من الوطنية احتكاراً جهويا، وهم من يُخوّن بعضهم البعض.
كان المؤتمر الوطني مشكلاً من الوطنيين ومن الانتهازيين ومن كل الأطراف، مثلما كانت الحكومات المنبثقة عنه، وأيضا البرلمان مشكل من نفس الفئات ومن الكتل نفسها، وحتى المجلس الرئاسي انعكس على تشكيله هذه الانقسامات، لكن الحرب الكلامية والتخوين بين من يقدمون أنفسهم كوطنيين لا أجندات خارجية لديهم ،هي ما تجعلهم الطرف الأضعف رغم كونهم يتمتعون بأكبر قاعدة شعبية على الأرض .
الحجة التي تقدم عن عبثية هذا الهجوم المجرم على الهلال النفطي كون الجيش الليبي حرر الهلال من تحكم ميليشيا جضران به ، وسلمه بالكامل لمؤسسة النفط بحراسة حرس المنشآت السابق، وإيراداته تذهب إلى المصرف المركزي بطرابلس ، وهي حجة منطقية وورقة قوية لدى الجيش ومؤيديه الذي تعامل مع الأمر بمهنية وبمسؤولية أخلاقية.
فلماذا يهاجم هذا الهلال النفطي مادام ريعه يذهب إلى بيت المال الليبي(وأعني هنا تعبير بيت المال حرفياً) .
والإجابة عن هذا السؤال تحيلنا إلى أن هذه الحرب سياسية محضة، وأن الهلال النفطي لا يفكر فيه كقوت لليبيين ومصدر دخل وحيد، ولكن كورقة سياسية يجب التحكم فيها من أجل تقوية الموقف السياسي، ولعل التصريحات التي خرجت بعد الهجوم على الهلال بمطالبة المجلس الرئاسي باستلامه تؤكد هذا الجانب .
الحرب سياسية ومتداخلة، وتستخدم فيها حتى المجموعات الإرهابية كأداة من أدوات السياسة، وهذا ما قام به مالكي العراق حين سهلت حكومته هروب إرهابيين خطرين من السجون، ليشكلوا تنظيما إرهابياً مختلطا يستولي على ثلث العراق بما فيه من ثروات نفطية من أجل خلط أوراق اللعب من جديد، وهذه الحرب في الموصل التي يُدفع ثمنها غاليا من أروح العراقيين ومن مقدراتهم الاقتصادية، وينزح بسببها مئات الآلاف من بيوتهم، كانت بسبب ورقة سياسية لعبها المالكي يوماً ضد المختلفين معه .
إذا ما اعتبرنا هذه الحرب قدرنا الذي تمنينا أن نتحاشاه، فإن الحرب المبررة، لابد أن يكون لها ذراع سياسي قوي، يترجم الانتصارات على الأرض إلى مكاسب سياسية، ويكون لها أفق تفاوضي يحدد نهاية لها، وإلا ستكون الحرب من أجل الحرب فقط، وقد كتبت سابقا ومرارا عن ضعف الجناح السياسي لما ينجزه الجيش، رغم أن هذا الجناح يتمتع بشرعية وقبول واسع لدى الرأي العام، لكن ضعف البرلمان وضعف مستشاريه السياسيين والإعلاميين جعله يخسر هذه المعركة مرارا مع طرف لا يملك الشرعية ولا القاعدة الشعبية العريضة، بل يمارس برنامجه من خلال سياسة فرض الأمر الواقع.
لا يمكن لأناس يفهمون أبجديات السياسة، ويدعون تمثيل الوطنية، أن يتخذوا قرار وقف الحوار بسبب أحداث مثل هذه غايتها الأساسية هي وقف الحوار أو أي بادرة توافق مهددة لمصالحها. هذا الهجوم غايته أن يزيد الاحتقان بين الغرب والشرق، وأن يوقف الحوار ويطفئ أضواء التوافق حين تلوح من بعيد، وحين نحقق له هذه الغاية فإننا سنعتبره قد انتصر حتى ولو أبيد القائمون به عن بكرة أبيهم.
لا ثمة صراع على مستوى التاريخ حدث داخل أمة أو دولة لم ينته بحوار، لأن التاريخ يقول لنا أن الحرب وحدها لم يحدث أن أنهت أزمة داخلية .
استمرت الحرب في كولومبيا نصف قرن بين جيش قوي ومجموعة الفارك المتمردة، وترتب عنها مئات الآلاف من القتلى والمعوقين، وخسائر اقتصادية بأرقام فلكية، وفي النهاية وصلوا إلى أن الحوار هو المخرج الوحيد، ولكن بعد أن أضاعوا خمسين سنة ثمينة من عمر هذه الدولة وهذا المجتمع . ومن لا يستفيد من دروس التاريخ سيرسب فيه وحين ترسب في التاريخ فستنضم تلقائيا إلى رواسبه التي يلقيها على جانبيه وهو يتدفق.
في قريتي ،حدثت مرة مشكلة مع إحدى القبائل التي قتل أحد أفرادها، ذهب أحد الحكماء لتهدئة الموقف وحقن الدماء وحين وصل لم يجد من يحكي معه، فالكل ممتشق سلاحه والكل يصرخ ويتوعد بالقضاء على القبيلة الأخرى والكل يرفض الحوار. تفرج عليهم الشيخ قليلا ثم جمعهم ، وقال: أنتو يا قبيلة فلان لو نجمعكم كلكم ما نطلّع منكم طاسة عقل . وبحنكته هدأهم وأوقف المجزرة، وفي النهاية أخذوا حقوقهم عبر الحوار (الميعاد) وعادت العلاقة بين الجارتين كما كانت .
حين اسمع الآن البيانات ووسائل الإعلام والتأجيج وجلسات أعضاء البرلمان، أحس، كما قال ذلك الشيخ، أنه لو جمعت كل هؤلاء لن تعصر منهم فنجان عقل أو حكمة. سفاهة ما بعدها سفاهة ما حدث من هجوم على قوت الليبيين الذي كان يصب ريعه في بنكهم المركزي. لكن علينا أن لا ندع السفاهة تنتصر وتتصدر المشهد لأن غاياتاها قذرة.
والحكمة تقول أن على الوطنيين في ليبيا أن يتحدوا من كل الجهات، ومن كل الأجسام والمؤسسات، ليجابهوا اتحاد الإرهاب واتحاد الأجندات الأخرى المعادية لفكرة بناء الدولة المدنية . والحكمة تقول أن الحوار مبدأ ومرجع، وهو الطريقة الوحيدة لحقن الدماء وإنقاذ البلاد من الذهاب نحو الفشل التام الذي سيجعلها مرتعا للقوى العالمية، وأن الحوار لا ينجح دون تنازلات، وأن التنازلات انتصار حين تكون من أجل مستقبل الوطن والمواطن.
حين تشكل المجلس الرئاسي، اجتمع أعضاء مجلس النواب واعتمدوه دون أن يعتمدوا حكومته، لكنه أصبح واقعا شرعيا بالنسبة للمجتمع الدولي وبالنسبة حتى للدول الإقليمية الداعمة لمجلس النواب والجيش، وبعد اعتماده تركوه للأطراف الأخرى تتحكم فيه رغم أن التيار الوطني كان يشكل الأغلبية بين نواب المجلس الرئاسي. وأن تعطي جسما الشرعية وتنسحب منه هذا ما يسمى الأمية في السياسة، لأن انسحاب الأعضاء من المجلس الرئاسي هو ما يريده الطرف الآخر بالضبط وقد نجحوا. هذا الخطأ يجب إصلاحه.
وحين أقول الوطنيين، ولست مؤهلا لقراءة الباطن، فأعني من يريدون للمسار السياسي الذي اختاره الليبيون أن يستمر، ومن يريدون وحدة ليبيا ووحدة مؤسساتها، ومن يسعون إلى المصالحة الوطنية، ومن يريدون جيشا وطنيا موحدا وشرطة وقضاءً مستقلاً، ومن لم يتورطوا في أي شكل من أشكال الفساد، أو بمعنى آخر، الأكثرية غير المستفيدة من هذه الأزمة، وهؤلاء هم الأغلبية الغالبة فوق الأرض لأن مصلحتهم ومصلحة أعمالهم ومصلحة أولادهم في استقرار ليبيا ووحدتها، وما يجعلهم يبدون كقلة كونهم متفرقين بعكس التيارات الأخرى.