فزاعات السياسة الليبية
سالم العوكلي
لقد طال الحوار الليبي بشكل جعل الكثيرين لا يشكون في نتائجه فقط ولكن في مصداقيته من أساسها، وبقدر ما يطول الحوار؛ أو التفاوض بمعنى أدق، تستفحل الأزمة أكثر وتزداد المعاناة لدى الناس الذين كفروا بكل شيء، وتخلوا حتى عن دورهم المنسي في الضغط وتوجيه الأحداث، فاقدين الثقة في الساسة الليبيين ومسلّمين أمورهم للمجتمع الدولي ممثلا بمنظمة الأمم المتحدة التي يدين لها تاريخهم بالكثير، من الإغاثات ومحاربة الأوبئة والآفات والتأسيس لتعليم عربي في الأربعينيات إلى الحصول على الاستقلال والإسهام في بناء الدولة في الخمسينيات.
يوجد تقريبا تسليم شامل للملف الليبي من قبل الشارع لهذه المنظمة رغم كل الانتقادات التي توجه إلى نهجها وكونها لم تعد نفسها تلك المنظمة قبل 70 عاما.
وبقدر ما لا يثق أطراف الحوار في بعضهم البعض، لا يثق الليبيون في هؤلاء الأطراف التي يرون أنها لا تتفاوض إلا من أجل مصالح ممثليها الخاصة ومن أجل تقاسم الغنيمة من المناصب والنفوذ، فتقريبا كل الأطراف المتفاوضة فاقدة لشرعيتها وفق المسار الدستوري الصحيح، وتحولت جميعها إلى ممارسة سياسة الأمر الواقع، فالمؤتمر الوطني يرفض التخلي عن سلطته التي انتهت دستوريا وواقعيا ويستمر في التواجد في المشهد وفي تقاضي مرتبات أعضائه. ومجلس النواب المنتهية مدة ولايته، والممدة فقط تحت مظلة الاتفاق السياسي يستمر رغم فشله في كل الملفات المنوط بها حلها، وانتهى به المآل إلى انقسام حاد، بعد اعتماده الأولي لاتفاق الصخيرات، ما جعله عاجزا عن عقد جلسة واحدة بالنصاب القانوني.
أما الحكومات الناشئة عن هذه الأجسام التشريعية فلا واحدة منها تتمتع بشرعية، وشرعيتها الوحيدة هي الحفاظ على مظهر تنفيذي لهذا الانقسام الذي يمثله السلاح حتى لا يكون فارغا من محتواه، وهي حكومات في مجملها لم تحل أية مشكلة يواجهها المواطن رغم ما صرفته من مليارات.
هذه الأطراف جميعها فاقدة للشرعية ، الشرعية الدستورية القانونية أو شرعية الإنجاز على الأرض التي قد تتأتى من إدارة ناجحة لشؤون الدولة والناس. إنها جميعا تشبه تلك البيادق فوق رقعة شطرنج التي لا تستقيم اللعبة بدونها، أو مثل فزاعات الحقل التي يكمن فعلها في مجرد وجودها حتى وإن كانت غير قادرة على الحركة.
وإذا ما اعتبرنا أن الأهمية الكامنة في هذه الأجسام الفاقدة للشرعية هي استمرار اللعبة السياسية وفق المسار الدستوري، فلا خيار لنا، وللأسف، إلا أن نسلم بأهميتها من باب حضور مختلف يتعلق بما يمكن أن نسميه الشرعية الاضطرارية، أو الافتراضية، التي يهبها الخوف من فراغ سياسي لا يبدو بديله سوى الاحتكام للسلاح.
البعض يشكك في الحوار برمته ، وفي ما آل إليه من لجان صياغة للتعديلات، والحجة أن الحوار منذ بدايته لم يمثل حقيقة القوى الموجودة على الأرض، لكن بعثات الأمم المتحدة المتوالية مقتنعة بهذه الحصيلة البراغماتية لجهدها الطويل الذي استهلك عدة بعثات أممية ، وأن لا بديل عن متابعة ما تم انجازه رغم كل العراقيل والصعوبات، فالمجتمع الدولي نَفَسُه طويل، ووفق خبرته يعتبر أن الزمن والمزيد من الاحتقان وتضخم الأزمة إحدى آليات الحل المجربة حين تصر أطراف الصراع على عنادها.
نعم ليست الأطراف على الطاولة ممثلة لجميع من يلعبون فوق الأرض، لكن الإصرار على الاعتراف الدولي بها بما يبطنه من تهديدات للمعرقلين يجعل القوى التي على الأرض هي التي سوف تسعى نحو الأطراف المشرعنة دوليا وليس العكس، فبعد هذه السنوات من الفوضى والحروب والفساد، بدأت القوى المستفيدة على الأرض تبحث عن مخرج، وعن مظلة تحمي مكتسباتها التي لا تزيد عن كونها مكتسبات مادية شخصية تمتع بها النافذون في هذه القوى ، ولعل تلك التشكيلات المسلحة التي انضوت تحت سلطة المجلس الرئاسي في طرابلس تثبت هذه الرغبة في الاحتماء بالشرعية، وهذا ما يجعل المادة الثامنة المتعلقة باختيار قيادة الجيش هي العقبة الكأداء أمام التوافق، لأن كل هذه التشكيلات تحتاج إلى ضمانة تدرك أنها لن تتوفر في ظل جيش بقياداته الحالية، تدرك قياداته ويدركون هم أنهم فعلوا المستحيل من أجل إجهاض إعادة بنائه للدرجة التي دعموا فيها منظمات إرهابية ضده.
بهذا المعنى فإن أطراف الحوار الفاقدة للشرعية المحلية، دستوريا وقانونيا من جانب، وغير الممثلة لكل القوى على الأرض من جانب آخر، أصبحت تتمتع باعتراف دولي يكسبها نوعا من القوة باعتبارها ممثلة لكل ما ورد في الاتفاق السياسي الذي تتفق حياله القوى الدولية والإقليمية كمرجعية وحيدة لأية مفاوضات. وهذه الشرعية الدولية ضاغطة بشكل قوي، خصوصا في مجتمع يدرك جيدا أن ليبيا كانت دائما صنيعة هذا المجتمع كلما عجزت عن حل مشاكلها بنفسها، وان ليبيا في هذا الظرف الاستثنائي تحت الباب السابع الذي يعرفون أهميته وتهديده الجدي باعتباره الباب نفسه الذي خرج منه النظام السابق بكل قوته.
إضافة إلى ضغوط أخرى على هذه الأطراف وأذرعها تتعلق بالدعوة إلى مؤتمر وطني شامل كخطة بديلة في حالة فشل المفاوضات، وهو مؤتمر رغم تعقيده قد يسحب البساط من تحت هذه الأطراف حين تتغير قواعد اللعبة. وضغط آخر يتعلق بمسيرة الجيش الليبي وتهديده للأطراف السياسية بتدخله المباشر إذا عجزت عن التوافق والخروج من الانسداد السياسي، وما يرافقه من إجراءات تفويض شعبي للمؤسسة العسكرية شبيهة بما حصل في مصر.
فهذه القوى التي فرضت نفسها على المشهد عبر السلاح، أو عبر لعبة سياسية تقودها مصالح إقليمية ودولية، استنزفت قواها العسكرية والمادية بشكل واضح، وأصبحت أنظارها متجهة إلى أية حصانة يضمنها اتفاق معتمد دوليا تكون جزءا من السلطات المنبثقة عنه، كما أن أنظارها مسلطة صوب قانون العفو العام الذي صدر عن البرلمان ولم يُطبق حتى الآن سوى على شخص واحد وهو نجل القذافي، سيف الإسلام، باعتباره من ناحية ورقة سياسية قابلة للعب في أي، ومن ناحية أخرى ممثلا للطرف الغائب المعني به المؤتمر الوطني المقترح، وهو الطرف المحسوب على النظام السابق وجله مهجر خارج البلاد.
البيّن أن قانون العزل السياسي حُرر من أجل إقصاء شخص واحد، بينما قانون العفو العام حرر من أجل إدماج شخص واحد حتى الآن، وفي الأحوال جميعها فإن أهم ما فعله مجلس النواب طوال مدة عمله هو إلغاء قانون العزل السياسي وإصدار قانون العفو العام ، ما يعتبر ركيزة قانونية مهمة لأي مبادرة نحو المصالحة الوطنية، ولأي مسعى لإدماج هذا الطرف الثالث في المشهد المقبل.
الأهم: أن هذا الطرف الذي يصر على انتمائه للنظام السابق، والمنتهز لفرصة فشل البدائل بعد فبراير، عليه أن يدرك أنه جزء من السبب الرئيسي لما وصلت إليها ليبيا من أزمة نتيجة عقود من الإدارة السيئة للمجتمع والدولة، وأن يبتعد عن المزايدة، لأن الليبيين بقدر ما يدينون باعتذار ممن تصدروا المشهد بعد فبراير، يدينون باعتذار أكبر من أولئك الذين يصرون على الانتماء لحقبة من القمع والفساد كان لابد أن تكون نتائجها بهذا الشكل الذي نراه، لأن لا نظام دكتاتوري خلد في التاريخ، ونهاية أي نظام دكتاتوري لا يجهز البديل له تؤدي دائما إلى مثل هذه الفوضى التي نشهدها الآن في مجتمع خال من المؤسسات أدارته لعقود خطابات الحاكم الأوحد المرتجلة، وهلوساته التي كان أتباعه النافذون، أو مريدوه، يترجمونها إلى قرارات تخص حياتنا اليومية.