فرصٌ مهدرةٌ..
فرج عبدالسلام
كان الحدثُ العظيم في الجزائر مفتتحا لنقاشٍ لم يخلُ من الحماسة والفائدة، حول الوطن ومحنته، دار مع صديقين بالأمس. وبالطبع انطلق بيننا ذلك السؤال المحرق، عن سبب تحوّل انتفاضة الليبيين إلى ثورة، ثم حرب، لا يمكن وصفها بغير الأهليّة وليس من دليل على ذلك إلاّ ما يجري اليوم في طرابلس. لنخلُص بالضرورة إلى الفارق الجوهري بين النظامين الجزائري والليبي، وكيف دفع الأخير الناس دفعا، بعد أن أفسدهم، إلى طريق العسكرة المليء بالأشواك التي يصعب الخروج منها. كان فحوى خطاب الصديقين هو لومُ الإعلام الوطني الجاد وغير المؤدلج، بالرغم من كثرة منابره، على عدم طرح حقبة القذافي المظلمة للنقاش، ووضعِها تحت المجهر، والتركيز على الكمّ الهائل من “الفرص المُهدَرة” التي ضاعت على ليبيا وشعبها منذ انقلاب القذافي عام تسعة وستين، وحتى ثورة فبراير، مع إضافة سنوات التيه الثمانية، التي أعقبت هذه الثورة على حساب فاتورة القذافي المثقلة بالسوءات، لأسباب لا تخفى على أحد.
استند الصديقان في حُججهما إلى أمرين، الأول هو ضرورة تدوين التاريخ، باعتبار أن نظام سبتمبر حدثٌ تاريخيٌ غيّر المشهدَ السياسي والاجتماعي والثقافي في ليبيا، وتخطّى الحدود أحيانا إلى المحيط القريب والبعيد. أما الثاني فينطلق من نهج موضوعي، وهو ضرورةُ فحص مسارات ثورة العقيد، وما أحدثته من خللٍ وتأثير سلبي في معظمه على ليبيا، وعلى أهلها، بسبب النهج الطفولي الاستبدادي الخبيث الذي تعامل به نظام العسكر في سبتمبر مع قضية إدارة الدولة، ما جعلَ ليبيا مرتعا للخراب والفوضى وللصوص، وما أثر كذلك بالسّلبِ على الأجيال الناشئة، التي ترسّخ لديها مبدأ الغنيمة، فتعاملوا مع الوطن كأنه بقرة حلوب لهم الحق في الاستفادة منها بأية طريقة كانت، بل وانجرّ الأمر على بقية مواطنيهم يستحلون أموالهم، وحتى أعراضهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وبالتالي يقول الرأيُ السديد إنه لا بد من عرض مساوئ انقلاب عسكر سبتمبر على الليبيين بالأرقام والإثباتات المتوفرة كثيرا، عن كل مناحي الحياة في ليبيا التي انحدرت في نفقٍ مظلم طويل، بالرغم مما يبدو في الظاهر من استقرار. خاصة بعدما بدأ يظهر بشكل مضطرد لجوء البعض، وخاصة الذين لم يعاصروا نظام الانقلاب، ولم يكتووا بناره ماديا وأمنيّا إلى المقارنة الساذجة بين ذلك العهد، وبين انعدام الأمن والأمان الحالي وتردّي أوضاع الناس، وغالبا ما يبدؤون محاججتهم بإمكانية شراء عشرة أرغفة خبز آنذاك بربع دينار، يقابلها ما يعادل رغيفين فقط الآن بالسعر نفسه، وغيره من رخص أسعار المواد الغذائية، التي اتفق الليبيون على تسميتها بـ “العلفة” في كوميديا سوداء عميقة المعنى. لم يخلُ النقاش من مقارنات مجحفة لطالما استخدمها الليبيون بين “دبي” و “طرابلس” وبين شخصيتي “زايد الخير” و “القذافي” وهذا موضوعٌ آخر يطول الحديثُ فيه.
لا أشك أن طرح مثل هذه القضايا بمهنية وموضوعية وتجرد، سيفتح العديد من الملفات، وربما سينير العديد من العقول التي لا ترى أبعد من بطنها وغرائزها، وتغيب عنها فكرة العيش بكرامة، الاستفادة من التاريخ، للعمل من أجل المستقبل. إنها فكرةٌ تستحق البحث.