فتوى الشخشير
نوارة الجبالي
تختلف الفتاوى الدينية وتتفاوت، بين التي تتعلق بأمن المجتمع وسلامة المواطن، كالتكفيرية منها التي تهدر دم المختلف في المذهب أو حتى في الرأي، والتي تستحل الأموال والسبي وتطلق على أتباعها المجاهدين، بل وترفع من درجة قتلاها إلى مرتبة الشهداء مع وعد بعدد هائل من الحور العين. وهناك تلك الفتاوى التي تستخف بعقول الناس، كالتي تقول بتحريم إهداء الزهور، وأكل العصيدة وغيرها، ووصل بعضها إلى حد تحريم جلوس المرأة على الكرسيّ لما فيه من مدعاة للفتنة. وتصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما تتضارب الفتاوى باختلاف المذاهب والبيئات والمجتمعات. هذا ما جال بخاطري، عندما استمعت لبرنامج ديني يجيب عن تساؤلات المتصلين، فتسألُ إحداهنّ هل ينتقض الوضوء إذا ما لبست بعده الجوارب ثم خلعتها؟ واستفقت على حقيقة موجعة. فهذا الشططُ في الممارسات الدينية، وكل هذه التفصيلات التي تعني لدى البعض الفرق بين الكفر والإيمان، وما يترتب على ذلك من صراعات اجتماعية ودينية، تخضّ مجتمعاتنا وتمنعها من الاستقرار والتقدم، ليست إلاّ نتيجة حتميّة لأنظمة ظالمة ومستبدة حكمتنا لعقود طويلة، لم تُعطِ للتعليم أي أهمية ولم تستثمر في العقول. رجعت بي الأفكار للوراء إلى ما قبل العقود الأربعة العجاف الأخيرة وما تلاها من سنوات الجمر في ليبيا. عدتُ إلى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، عندما كان التعليم أولوية للدولة والمواطن، واقترن ذلك بانفتاح فكري على كافة العلوم والثقافات. لم تكن الدولةُ حينها تملك إلاّ عددا قليلا من المدارس، فتبرّع المواطنون ببيوتهم البسيطة لتتم فيها العملية التعليمية، ولإيمانها بأهمية العلم لم تبخل الدولة، بالرغم من قلة مواردها، بتقديم ما باستطاعتها للتشجيع على مواصلة الدراسة، وانتشرت المكتبات والمراكز الثقافية في المدن المختلفة. كانت تلك الفترة بداية قيام دولةٍ فتيّة واعدة بالتقدم والازدهار، وخاصة بعد اكتشاف البترول. حقيقة لم تكن المتصلة التي تنشد “فتوى الشخشير” من ليبيا، لكن ذلك لا يعني أنه ليس لدينا من مثيلاتها الكثير، وأن الحال نفسه في أغلب الدول التي تعاني من ظاهرة الإرهاب، والتطرف الديني، وتنامي الأفكار الشاذة والبعيدة كل البعد عن ما يدعو له الدين الإسلامي، وكل الشرائع السماوية، بسبب غياب الوعي وتفشي الجهل وتسطّح الفكر، وتدني مستوى التعليم. فعدم وعي المواطن، أخطر داء يصيب الشعوب، فهو عبء على وطنه وعقبة خطيرة في طريق التقدم والرقي.
يساهم التعليم في خلق إنسان لديه القدرة على إعمال المنطق، وتحليل الأمور بعقلانية واتزان، دون أن يرهن عقله للغيبيات. فإن صلُحت المنظومة التعليمية من المستحيل أن يجني المجتمع عقولا مضطربة لا تكاد تعرف طريقها في الحياة ولا تكاد تسهم في بناء الأوطان. وأتساءل لو استمر الاهتمام بالمنظومة التعليمية في ليبيا، كما كان قبل انقلاب سبتمبر… هل كان الوطنُ سيصل إلى ما نحن فيه اليوم؟