غناوة “العْلَم” السياسية
سالم العوكلي
ــ “خابن تقاوي العقل .. ارماهن اخطي زومة الرعد”. مجهولة المؤلف
ــ “اغبطن بارقة شابيب .. سَرَنْ أذواد عقلي بلْعقل”. حسن القابسي
ــ “لجداب داربك يا عين .. تميتي تخافي م الرعد”. محمد البزاري
ــ “تباوعتّا ريبِتْ .. العقل فيه رفّة امظلمة”. عيسى مشري
نماذج من غناوي علم عميقة جدا، وتحمل رطانة سياسية أو عمقا فلسفيا، يقف خلفها شعراء يجيدون اختزال الرؤية الشاسعة في أقل مفردات ممكنة، وباستخدام استعارات ومجازات واسعة تتعلق كلها بطبيعة المكان وعلاقاته وطبيعة الحياة التي يخبرونها أو يعيشونها.
الغناوة الأولى تذهب إلى أن عدم التوقيت الجيد لمشروعك أو تنفيذ حلمك (قد يكون هذا المشروع خطة إصلاح مثلا أو حتى ثورة جذرية) يشبه أن ترمي بذورك (التقاوي) في الأرض في غير موسم المطر (زومة الرعد) كي تضمن نجاحها، والنتيجة هي الخيبة حين تخطيء البذور صوت الرعد . خيبة المشروع أو الحلم .
الثانية ، ويقال أنها أُلِّفت بعد عقد قوى المعارضة الليبية لمؤتمرها في لندن العام 2005 . حيث انبثق أمل، غير أن الذهاب إليه أو المشاركة فيه كانت مستحيلة نتيجة القيود المكبِّلة والقمع الداخلي . الإبل عادة تربط بعقالات تمنعها من الحركة حتى لا تسري ليلا إلى حيث البرق يعد بمراتع خصبة . و في هذه الغناوة حين حددت الإبل (اغبطن) بارقة المطر سَرَتْ إليه في خيالها رغم القيود التي تكبلها، والشاعر أسرى إلى هذا الحلم البعيد مثل البرق وهو مكبل.
الثالثة: حسب تفسيري الشخصي تشير إلى ما حدث من إحباط بعد انتفاضة الليبيين الكبرى وذاك الخوف الذي تسرب إلى الناس من مفردة (الثورة) التي يعبر عنها مجازا بـ (الرعد) أو محاولة تكرارها . حين أحاط الجدب بكل شيء أصبحنا نخاف من صوت الرعد. من المفترض أن من يحيط به الجدب يفرح بصوت الرعد، لكن الخيبة أحالت هذا الفرح المفترض إلى خوف في مفارقة غريبة لا تدين لشيء إلا للخيبة التي يذكر بها هذا الرعد .
الرابعة: ذات بعد فلسفي يتعلق بتلك المساحات المعتمة في عقولنا والمكتظة بأسئلة لم يُجب عنها، لدرجة أنها تصبح مساحة مخيفة في دواخلنا، وحيثما تقمع حرية التعبير تتوسع مساحة العتمة داخل العقول . وهنا إذ تلصص (تباوع) الشاعر على هذا الركن من العقل رأى فيه زاوية معتمة فأحس بالريبة. الرفّة هي إحدى زوايا بيت الشَّعر الذي يتكون من رفتين، حيث كان يقسم بحاجز قماشي ليفصل بين النساء والرجال في المناسبات أو وقت الاستضافة. الشاعر المحترف الكبير حسن لقطع كان تشببه بالفتيات يجعلهن في الصدارة، ويسهم في شهرتهن وزواجهن المبكر، وحين حل على امرأة اسمها (شرافة) وكان وقتها شيخاً كهلا، نادت على ابنتها الجميلة سعدى من الرفة الأخرى كي تحضر لتعد له الشاي لعلها تحظى بغزل من شاعر شهير يجعلها في صدارة بنات البادية، وحين أدرك حسن لقطع خطة العجوز شرافة، ولأنه يعرف جمال سعدى، قال مطلع قصيدته الشهيرة: خلينا أصحاب وكل حد في رفة … حتى العاقلة دنو الجميل يخفه. موجها رسالته للأم بأن اعتقادك أني كهل وعاقل لن يصمد أمام الجمال.
ارتبطت عادة غناوة العلم بالشجن الشخصي وغاص معظمها في علاقات الحب (اليائسة منها خصوصا) لكن مؤلفيها لم يتوقفوا عن الخوض في المجال العام (السياسي أو الاجتماعي أو حتى الاقتصادي) ويبرز هذا واضحا في غناوي (قذاذير) موسم الجلامة، حيث تتحول إلى مناسبة للتداول الفني مع حدث سياسي أو اجتماعي يسيطر على الرأي العام وياستخدام رموز وأدوات المنسبة يعبرون عن أرائهم بقوة في ما يعتري المجتمع من اضطهاد أو ألام . وعادة ما يدفعون الثمن مثلما حصل للمغني الشاعر (محمود محمد شعيب العرفي) الشهير باسم (البولندي) والذي يورد القاص والباحث في التراث، أحمد يوسف عقيلة، حكايته في كتابه “القذاذير المقاوِمة” تحت الطبع، يقول أحمد : “للتدليل على أهمية الغنّاوة ـ هذا النص المختزل الذي يرعب السُلطة ـ فقد دفع محمود بوشعيب الشهير بلقب (البولندي) حياته ثمناً لسبع كلمات فقط: “سَمْسارة هَوِيْد الليل … كَدَّوا الضان وازَوا ثَنُوها.
كَدَّوا.. وازَوا: جاء بالْمُسَبَّب (النتيجة) قبل السَّبَب.. فالْمُسَبَّب هو: الكدَى.. والسبب هو الموازاة.. يتحدث هنا عن الاعتقالات التي تجري آخر الليل.. ونعت السُلطة بالسمسرة.. السمسار الشرعي ينبغي أن يأتي في وضح النهار.. أمّا من يأتي تحت جنح الظلام فهو مشبوه.. والثنو: جمع ثني.. وهو الكبش الفتيّ.. بعد تجاوز الحوْل.. وتُجمع ثني على ثنيان أيضاً.. غير أن (ثنو) من جموع الكثرة في اللهجة الليبية.. فهو يريد أن يدلل على كثرة المعتقلين.. نَص مختزَل في مقابل ترهّل السُلطة.”. انتهى الاقتباس.
في الثمانينات وحين وصل الحال بالليبيين إلى الحضيض، تسرب من أحد احتفالات الجلامة قذاذير عبّر بعضها مباشرة عن الانقلاب العسكري وتداعياته التي وصلت بالبلد إلى تلك الحال:
تعاون اطناشر ذيب ..علي ضان في غوط سايبة. رقم 12 هو عدد أعضاء مجلس قيادة الانقلاب، الذين انقضوا على الشعب الذي شُبِّه بقطيع ضأن سائب في مساحة شاسعة دون راع أو حارس، بعد أن ترك الملك البلاد وسافر إلى الخارج تاركا إياها في مهب الرياح والذئاب. ما يجعل آخر يرد عليه : تصايح معيز وضان .. تريد راعيها لولي. وتعكس هذه (القذّارة) حنين الناس إلى الملك وزمنه وهو حنين حقيقي عَبّر عنه حرفيا كل أكسسوار ثورة فبراير فيما بعد، وعودة صور الملك وعلم الاستقلال في كل مكان، وتعبير معيز وضان يشير إلى كل مكونات هذا الشعب.
يقول مغنٍ آخر : عشم الضان في لذياب .. تكالن وجا بيناتهن . حيث بدأ الاثنا عشر عضوا في مجلس الانقلاب صراعا داخليا ترتب عنه تصفية بعضهم بعضا ولم يبق منهم سوى 5 أعضاء، ما رده المؤلف ل (عشم) الشعب فيهم، وحين يستبد الطغيان فلا أمل للناس سوى في الدعاء والعشم والقدر .
عادة ما تكون مفردات الضان أو الغلم (الغنم) دالة على المجتمع أو الناس عموما أو الشعب بالمفهوم السياسي، وصادفت بعض التعليقات التي تنتقد تشبيه الشعب بالضأن أو قطعان الماشية، لكن من يعرف علاقة هؤلاء الرعاة أو (الموالين) بالضأن والإبل لن يرى في هذا الترميز إهانة لأنهم يحبونها كما يحبون أولادهم، ويؤنسنونها في شعرهم وليس العكس. فالراعي أو صاحب الضأن يعرف قطيعه الذي يعد بالمئات بالوجوه والملامح وليس عبر الإحصاء أو العد كما يحدث مع البشر في المعسكرات والسجون مثلا، وحين تضيع إحدى الشياه يفتقدها من خلال ملامحها مثلما نفتقد عزيز علينا أو أحد أفراد الأسرة.
تفاعل هذا الفن مع متغيرات ليبيا في كل وقت بحس ناقد أو ساخر أو محذر. فبعد ثورة فبراير وسقوط النظام بدأت إرهاصات صراع على الغنيمة . فقال مغن: قدامك ربيع كبير .. لوكان غير يا ضان تركحي. بمعنى أن كل الخير في المستقبل لو أن حمى هذا الصراع على الغنيمة تخفت . فيرد عليه آخر: ما صادت الضان تريض … عووايل فيها يلغبوا . بمعنى أن هذا المجتمع لم يكن بإمكانه أن يهدأ لأن العواويل (الغلمان المراهقين أو ما سمي الثوار) هم من يقودون المرحلة مع غياب الخبرات والحكمة. وعادة حين يسوق الأطفال أو الغلمان الضأن، دون خبرة، يثيرون فيها الفوضى والفزع والاضطراب، ولا تجد وقتا لتهدأ أو ترتع (تريض). ومنها التعبير (ريضك) بمعنى اهدأ أو توقف.
تفاعل هذا الشعر مع كورونا أيضا في آخر احتفال زامن هذه الجائحة وذهب بها إلى عرض تداعياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، وكثير من الغناوي التي ذهبت في كل اتجاه، وأذكر منها:
مالعصرــ من أمراض العصر ــ تميتي تحوشي يا غلم . حيث فرض فترة قرار لمنع التجول جعل الناس تأوي إلى بيوتها منذ العصر، وعادة ما (تحوش) الأغنام إلى جوار البيوت أو حضائرها بعد المغرب. والسبب في هذا أمراض العصر مثل كوفيد 19 الذي غير عادات العالم كله.
كانت غناوة العلم في فترات سابقة مرتبطة بقريحة شعبية جماعية (مجهولة المؤلف غالبا) مثل مؤلفي الأمثال الشعبية، لكن في العقدين الأخيرين ــ على الأقل ــ أصبحت كل غناوة موثقة باسم مؤلفها، وهذا تطور مهم يحفظ للشاعر حقوقه الحصرية في إبداعه.
حين أسمع أو أقرأ قصائد أو غناوي علم من هذا الفن الإنساني، أدرك أن شعراءه لا يختلفون في قوة المعنى والسبك عن شعراء العرب ما قبل الإسلام وبعده (العباسي والأموي) حيث كان أولئك الشعراء يؤلفون قصائدهم بلغتهم الدارجة أو العامية آنذاك، بل أذهب إلى القول أنهم لا يختلفون عن شعراء كبار معاصرين في الفصحى، والفارق أن هؤلاء يعملون ضمن مؤسسات ثقافية فاعلة تتعلق بالتوثيق والتدوين والنقد والبحث الأكاديمي، بينما شعراؤنا المسمون (شعراء شعبيون) يؤلفون قصائدهم في الخلاء والهواء الطلق مستمتعين ومحيطهم بهذا الجمال.
وهذه المقارنة ما تجعل شاعرا ومترجما ليبيا كبيرا وحداثيا مثل، عاشور الطويبي، عاشقا لغناوة العلم وساعيا لترجمة هذا التراث إلى اللغة الإنجليزية، لأنه يحس أنها لا تختلف عن أي شعر عالمي تعامل معه، بل ويقارنها بشعر الهايكو الياباني الذي هو في الأساس شعر شعبي تحول بفعل اهتمام المؤسسات الثقافية به إلى فن عالمي يلهم الكثير من شعراء الحداثة في كل اللغات، ويُدَرّس في أقسام الأدب في كثير من الجامعات العالمية، وقد ترجم الطويبي الكثير من شعر الهايكو إلى العربية.
وما تجعل أديبا وباحثا مثل أحمد يوسف، يتحول إلى مؤسسة ثقافية توثيقية، يتنقل بآلة تسجيله بين هذه الاحتفالات، موثقا وناقدا لهذا الفن “المقاوم”، حيث القذاذير مرتبطة بالموسم وعادة ما يتوقف تداولها بين الناس ، بعكس غناوي العلم العاطفية التي تؤلف في حوارات الأعراس غالبا وتظل متداولة باستمرار. بينما يلعب الآن الفضاء الرقمي دورا كبيرا في نشر هذا الفن عبر صفحات منصات التواصل الاجتماعية، وعبر المدونات وغيرها من الموقع المختصة.