غداة انسحاب جند الخليفة
حسام عيتاني
يقاتل جند الخليفة أبي بكر البغدادي وظهورهم إلى الجدران الأخيرة في الرقة والموصل. بات دمار المدينتين مرتبطاً بموت الخلافة وباضمحلال الصيغة الأعنف والأكثر دموية للإسلام السياسي.
وصول وحدات «الحشد الشعبي» الى المسجد النوري الذي أعلن البغدادي منه قيام خلافته وتقدم «قوات سورية الديموقراطية» في الرقة يشيران الى بداية مرحلة جديدة من الصراعات ما دام لا «الحشد» ولا «قسد» يملك اي تصور لحل سياسي يعالج الخلفيات التي ادت الى ظهور «داعش» ويصرّ كل منهما على انه هو الحلّ. ليس هناك ما يقول ان «داعش» سيذوب ويختفي. بل الأرجح انه سيظهر بأشكال أخرى ما دامت الأسباب الأولى التي افرزته لا زالت حاضرة.
المشكلة لا تنحصر في الرقعة التي تمدد عليها وانطلق منها التنظيم الإرهابي، ولا في الآلاف من جنوده الذين سيعودون الى بلادهم التي تبدي سلطاتها خشية كبيرة ممّا يحملون في أذهانهم من افكار وخطط. بل تتجاوزها لتصل الى الإخفاق في علاج أسباب الظاهرة والتركيز على الجانب العسكري – الأمني في التعامل معها، ما يمهد لعودتها بمسميات مختلفة وبالجوهر ذاته.
انهيار خلافة البغدادي ينبغي ان يبرر طرح سؤال اكبر: ما دامت الحملة على الإسلام السياسي بصيغتيه الإخوانية والداعشية قد نجحت في انتزاع مواقع اساسية منه، ما البديل الأفضل لملء الفراغ الذي سيتركه؟ قد لا تصح المقارنة بسقوط نظام طالبان في افغانستان عام 2001 ولجوء فلول الحركة الى الجبال وشن حرب عصابات مديدة من هناك، بسبب الاختلافات في البيئة وميول السكان. لكن ذلك لا يعني ان هزيمة الإسلام السياسي، بصيغته التي حكمت مناطق شاسعة بين الموصل والرقة وتمددت حتى حلب، وبتلويناته الأخرى المختلفة قد فتحت الطريق امام سلطة أكثر رشداً وأن البديل عن «داعش» و «الإخوان» هو الديموقراطية والانفتاح والسلم الأهلي.
يمكن تلمس بوادر هذا المأزق في التجارب التي افلحت في إقصاء الإسلام السياسي عن السلطة، من جمهوريات وسط آسيا السوفياتية السابقة الى بلداننا العربية، حيث يطوف شبح الديكتاتوريات والقمع مكان شبح الإرهاب المستتر بالدين. بذلك نعود الى الثنائية المهيمنة على منطقتنا منذ عقود: الاختيار بين نوعين من القمع فيما تُسدّ السبل امام كل تجربة للسير نحو خيار ثالث يتلاءم مع حاجات شعوب هذه المنطقة الى التنمية والعدالة والكرامة.
واحدة من السمات التي تسهل الامتناع عن هذا الخيار الثالث هي قلة الطلب عليه وقلة المعروض منه في آن. الفضيحة التي آلت اليها «الأنظمة التقدمية» في العراق وسورية وغيرهما ستعيق الى أمد بعيد استئناف البحث عن مخارج أقل ظلاماً من الديكتاتوريات ومن الإسلام السياسي. مخارج تستند الى حضور العقلانية في السياسة وهذه في تلك، على نحو يخفف من صدمات التحولات العميقة سواء التي تعتمل في دواخل مجتمعاتنا او تلك التي يفرضها العالم واقتصاده وسياساته علينا، وتحول دون انقلاب اي نقاش أو رأي مختلف الى مصدر تهديد وجودي للدولة.
الوجه الآخر لهذه الظاهرة التي تتمثل في قلة الطلب على التحرر من ثنائية الديكتاتوريات والإرهاب السياسي، هي الافتقار الشديد الى الطبقة الوسطى وبالتالي شلل اي حراك مستقل عن آليات السلطات ومآلها.
صحيفة ” الحياة اللندنية “